يا شهيد المنفى إلى الوطن
بكلّ حسرة وأسى: وفاة أ.د، أحمد مسعود القاق في ريف دمشق
روحك تحلّق حولنا وتحيا فينا أيّها المسكون حبًا
ابنه علي مسعود القاق وأمه سحر جبر، وابنتيه رند ورغد وأمهما انتصار منذر، أخوته المرحومة عطية ورغدة وهيثم وغادة وأدهم وهاني والمرحوم بشار ونزار ومطاع وإباء وأبناؤهم وأحفادهم، أحبته في دمشق وريفها وجرمانا، ينعون الأستاذ الدكتور أحمد مسعود القاق..
{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}
لم يكن المرحوم سلبيًّا تجاه بيئته الاجتماعية التي ولد ونشأ فيها، بل حفلت حياته بقدر من الشجاعة النادرة، التي عجز عنها الآخرون، فهو ابن الفلّاح مسعود القاق الذي ورث عن أبيه شيخ هاني القاق وأمه السيدة المعطاءة عطية الكنفاني أرضًا كفته وأعانته على تربية أحد عشر صبيًّا وبنتًا وتعليمهم، كان كبيرهم فقيدنا الأكرم أحمد الذي ولد عام 1946 في رحاب الغوطة الشرقية بريف دمشق داخل أحد بساتين جرمانا الخصيبة، وقد كان أبوه من المتعلمين الأوائل في جرمانا، ومن الذين اُعتمد عليهم في أول مجلس بلدي أو محلّي لجرمانا في خمسينيات القرن الماضي، كما كان نائبًا لرئيس جمعية كفر سوسة الزراعية على مستوى ريف دمشق، ثم أصبح المسؤول الرئيس عن الجمعية التعاونية في جرمانا في الستينيات، وكان الأب يستعين بابنه البكر أحمد ويفاخر بشخصيته القوية وعقله الراجح.
أورث مسعود القاق وزوجته هدية سري الدين ابنة المجاهد علي سري الدين ابنهما أحمد حب أهله ووطنه وانتصاره للعلم، فكان خير خلف لخير سلف، وقد انتخب عضوًا في مجلس بلدية جرمانا في أواسط الستينيات، حين كان يحمل فكرًا علميًّا تقدميًّا دافع عنه بكل صدق وأمانة، وحين وقعت نكسة يونيو/ حزيران 1967، كان واحدًا من فريق تطوعي سعى، لتشجيع الجماهير التي شعرت بالخزي والخذلان والخيبة.. كنّا حينئذٍ أطفالًا، وكنا نسمع صوته عبر ميكرفون القرية، وهو يدعو لمقاومة الاحتلال الصهيوني، ويشد من أزر أهله للخروج من حالة يأس أصابتهم، وكان يطيب له أن يضع موسيقى السمفونية الخامسة (قدر يقرع الباب) لبيتهوفن أمام المايكرفون، على الرغم من معارضة الآخرين، فهم يريدون سماع أغنيات شعبية لسميرة توفيق وسواها.
بعد انتهاء الحرب لم يتورّع أحمد من خوض تجربة سياسية مع التيار القومي التقدمي في تلك الفترة خارج سلطة نظام البعث، وأذكر أنّه خضع للتحقيق في مخابرات النظام مع أصدقائه بعدما استشهد كمال عز الدين الناشط في صفوف الحركة القومية على أيدي جهاز مخابرات سلطة البعث محاولين إخفاء جريمتهم باستدعاءات أمنية لأصدقائه وأقربائه والتحقيق معهم وإخافتهم؛ ليرهبوهم ويبعدوهم عن مساراتهم السياسية.
قاد أحمد مسعود القاق مسيرة تربية أخواته وأخوته منذ نعومة أظفاره مع والديه، وتخرج في جامعة دمشق عام 1968، قسم الجغرافيا، ليرسله أبوه إلى النمسا، جامعة فيينا، فأتم الدكتوراه مختصًا بالمورفولوجيا عام 1974، وللأسف حصل على شهادة تخرّجه بعد وفاة أبيه بأشهر قليلة.
أتذكر الآن، وجسدك مسجّى أمام أهلك ورفاقك، أيها الشقيق والمعلّم، كيف كانت زيارتك الأولى عام 1973 قادمًا من فيينا، لإكمال رسالة الدكتوراه عن الطبيعة المورفولوجية لجبال لبنان الغربية؛ إذ كان أصدقاؤك يحتفلون بقدومك، ويسهرون ساعات يتحاورون معك حول قضية أثرتها بكل جسارة، تتعلق بالهوية الإسلامية التي حملتها معك في فيينا، بصفتها الأكثر قوة لمواجهة طغيان الغرب وجبروته، كما كنت تقول أمامنا، لدرجة أنّك تنازلت عن مسيرتك التقدمية لمصلحة تجديد الفكر الإسلاميّ منطلقًا من اشتراك طوائفه كلّها في رسم ملامح تلك الشخصية، التي اعتبرتها شرفًا عظيمًا يجب على المرء أن يدافع عنه.
كنّا حينئذ صبية نستمع إلى تلك الحوارات الحامية بين أحمد مسعود القاق، الذي دافع عن ضرورة الخروج من دائرة نظام الحكم السياسيّ الفئوي الأقلوي نحو آفاق أكثر رحابة لفهم الإسلام فهمًا جديدًا يخرجه من دوائر تخلّف شيوخه وماضويتهم، طامحًا ليجعله مؤثرًا في رسم معالم حضارة كونية تتجاوز فيه ظلم قوى الشرور الإمبريالية، بل ليصبح الإسلام مشاركًا في صنع حضارة جديدة، وليس في استهلاك نتاجها فقط، كنّا نستمع إلى حوارات ثرية مع ثلة من مثقفي دمشق التقدميين، الذين لم يتوانوا في الدفاع عن أفكارهم الماركسية والبعثية، مظهرين اعتراضهم لأسلمة الفكر الذي حمله أحمد مسعود القاق معه من فيينا، وللأسف كانوا قد أساءوا فهم مقاصده النبيلة والضرورية في عالم تنهار قيمه نحو الحضيض، لقد رسم أحمد تصوّرًا ليتآلف المسلمون بطوائفهم مع أبناء الدين المسيحيّ بطوائفه الذين يحملون روح الشرق وثقافته وعلومه إلى جانب المسلمين.
في تلك الفترة أذكر أنّه لم يكن وحيدًا، بل كان معه آخرون، وكنت قد شهدت معه على لقاءات مع د. محمود حسن حبنكة الميداني، الذي كان يكنّ الاحترام والإعجاب بشخصية أحمد الفذّة، وكنت قد سمعت منه وهو يتغنّى بمواجهة أحمد تعصّب اليمين القومي النمساوي ودفاعه الحق عن الإسلام المختلف عن دروشة المسلمين آنذاك.
رحمك الله يا أخي أحمد، الذي لطالما افتخرت بشخصك النبيل، إذ كنت مثال الرجل الصادق والشجاع في طرح آرائه، الرجل الذي استشرف المستقبل منذ بداية السبعينيات، وبات كالنبي يحيى ينادي في البرية محذرًا من كارثة الطوائفية البغيضة، التي كان نظام الحكم يشجّع على انتشارها، كان يصرخ متألمًا من دون أن يستجيب الكثير لندائه، كان معظم أبناء بيئته يعميهم حب الذات والتعصّب للولاءات الأولية التي ولدوا فيها، في الوقت التي كان الوطن يغرق في مستنقعات الطائفية والتخلف والفساد والقهر السياسي..
رحمك الله يا أحمد، أتذكر كيف كان الأسى يقطر من محياك، حين كانوا يصدّونك أولئك الذين أعمتهم نكسة 1967، وجعلتهم ينكفئون نحو عصبياتهم الفئوية والعائلية والقبلية والطائفية والحزبية، ويحتمون بزعماء جهلة سفيهين، تاركين الوطن في حالة تماوت، حتى وقع ما كنت قد استشرفت نتائجه مبكرًا.
اقترن أحمد مسعود القاق من د. سحر ابنة علي جبر الدمشقية، التي تربت على يدي والدها الحامل تطلعات قومية مشهود له بها في سوريا والعراق، وقد حاول أحمد حينذاك أن يعمل في العراق، ولكنّه اكتشف أثناء زيارته لها حجم الديكتاتورية القاتلة المهيمنة على العراقيين، ليعود مبديًّا الاستياء وخيبة أمله، ويسافر مع زوجته سحر إلى الجزائر عام 1975، وهناك اشتغل أستاذًا جامعيًّا في جامعة وهران، وقام بدراسة جبالها مورفولوجيًّا، وأرسل نتائج الدراسة لجامعته في فيينا، فأقروا بأهمية نتائج الدراسة، ووجهت له دعوة لتقديم أوراق الجنسية النمساوية، إلّا أنّه رفضها بكل إباء وشرف؛ انسجامًا مع أفكاره المنشغلة برسم ملامح هوية عربية إسلامية حديثة الطابع وعلمية التوجهات؛ دفاعًا عن ثقافة العرب المسلمين والمسيحيين، وأظهر غضبًا على بلاده التي تقصي العلماء وتنفيهم وتهينهم.. إلى أن ركنت الدراسة في أدراج جامعة وهران من دون ان تنال أي تقدير.
أنجب أحمد ابنه علي مسعود القاق من د. سحر حين كانا في الجزائر، ثمّ شاءت الأقدار أن ينفصلا اتفاقًا وديًّا، أمّا علي فكان مثال الابن الذي أكمل طموح أبيه وأمه، فقد درس الفنون الجميلة، وأكمل دراسته في ألمانيا، ويعدّ حاليًا ضمن صفوف الفنانين التشكيليين العالميين.
رجع أحمد مسعود القاق من الجزائر عام 1992، وكان وطنه يتماوت على أيدي حكام استهانوا بالمسؤولية التاريخية، فرفض الانضواء في صفوف مؤسسات الدولة، وبقي بلا عمل، إلى أن جاءته فرصة العمل أستاذًا جامعيًّا في إحدى جامعات المملكة العربية السعودية، وحين عاد منها تزوج من السيدة انتصار أديب منذر، وأنجب منها ابنتين رغد القاق ورند القاق، اللتين ما زالتا تتابعان الدراسة الجامعية.
رحم الله أخي أحمد، الذي استطاع أن يحمي نفسه من براثن بيئة مجتمعية اتسمت بالتخلف والقهر، صان نفسه من أطماع من حوله، ومن أحقادهم التي لم تنتهِ، الأطماع والأحقاد المستمدّة من عجزهم وانزوائهم في عزلة عصبوية تجسدت في سلوك أقلويّ رخيص.
أخيرًا، ارتضى أحمد مسعود القاق أن يسكنه الهدوء الأسري، بعدما شعر بخيبات أمل كبيرة، لاسيّما في سنوات الألفية الجديدة، التي توجّت بثورة الربيع العربيّ، حيث عدّها استجابة لنداء حركة التاريخ الذي غضب على حكام أداروا له ظهورهم، كان يبدي في سنواته الأخيرة المزيد من الأسى والحزن على شباب يقتلون ويعتقلون ويهجّرون في سوريا الجريحة، وكان يتأسى ويغتمّ شجىً على شباب فتحوا أذرعهم مستقبلين تاريخ جديد، فتكالبت عليهم قوى الشرور وبؤر الفساد المحلية والإقليمية والعالمية؛ ليعيقوا تقدمهم وانتصارهم الحاصل -لا محالة- خلال زمن ما زالت سيرورة ثورته تتقدم صعودًا، أما أحمد فقد ازداد خيبة بعدما استطاعت تلك القوى البغيضة إشعال نار هذه الحرب الأهلية العبثية التي أضحى قوامها ميليشيات أقلوية تتقاتل مستعينة بالقوى الخارجية، إمعانًا في معاداة ثورة الربيع العربيّ.
رحمك الله يا سيد الرجال، سلامًا على روحك الطهورة التي ستبقى محلّقة في سماء وطننا، وداعًا لغيابك الفاجع، ونعدك أن نبقى مستلهمين من سيرتك كيف نسير في دروب الخير والمحبة والإصلاح مهما كانت وعرة، وأن نخلص في طاعة استقامتك، ونذكر نقاء سريرتك وطهارة مقاصدك ومساعيك المكللة بكل الحب والمعرفة والحرية لخير أهلك، الذين اخترتهم -بمحض إرادتك- في دروب تجديد الفكر الإسلاميّ؛ طامحًا أن يصبحوا فاعلين على المستوى الحضاري والكونيّ.