نسمة وأمنية بقلم نجيب كيَّالي
نسمة وأمنية
خاطرة
تصل نسمةُ الصباح إلى غرفتي، وأنا مهاجر في فرنسا ملتهِبٌ بالشوق إلى بلدي سوريا، ترقص النسمة، تداعبُ ستارة النافذة، تهزُّ الورقَ في أصيص الورد المركون في الزاوية، ثم تندفع نحوي، تعانقني كحبيبة، فأقول: أهلاً يا حلوتي. تُحدّثني نسمتي عن مشوارها الذي بدأ في الليل من فوق سطح البحر في بلد بعيد، عَبَرَتْ بعده بلداً ثانياً وثالثاً قبل أن تأتيني. أثناءَ طيرانها مرَّت فوق غابات كثيرة، ومصانع، وطرقات ودُور عبادة، ومسابح، وبيوت، وملاعب، ولم تنسَ أن تُوقظ الحَمَامَ في أبراجه، والعصافيرَ في أعشاشها. أقول لها: حمداً لله على السلامة، وأشرد، وفي شرودي أتمنى أمنيةً غريبة، أهمس: ليتك يا رب خلقتَني نسمة. نعم نسمة، أنا العربيُّ الذي يصعب تنقلي في بلاد العرب وفي بلدي نفسِه، كأنني مجرمٌ أباً عن جد! أمامي دوماً أسلاكٌ شائكة، وحواجز عسكرية، ووجوه مكشِّرة، يستعيذ منها حتى إبليس! أمَّا النسماتُ فتتحرك بحرية، ولا يوقفها أحد. لعبَ بي الخيال، فصرتُ نسمةً لمدة دقائق، وصلتُ إلى بلدي إدلب، فاستنشقتُ عطرَ زيتونه وتينه، عانقتُ الدروبَ والجدران والمآذن وزجاجَ الكنيسة فيه، التقيتُ الأهلَ والأصحاب، وبكيتُ على أكتافهم. فجأةً انقطع الحلم! خطر لي خاطر مُقلِق أو مرعب.
ماذا لو عَلِم أصحاب الوجوه المكشِّرة أنني صرتُ نسمة؟! انفتحت في الحال نافذة أخرى في خيالي أو انزاحت ستارةُ مسرح: ما كاد يعلم زعيمهم بحالتي حتى صاح: أيها الجند ماذا تنتظرون؟ لنا عدوٌّ في الهواء، اقبضوا عليه، مطلوبٌ حياً أو ميتاً، قطعةً واحدةً أو قِطَعاً عديدة كالصحفي جمال خاشقجي. أسرع الجند، فنصبوا حواجزَ في الهواء، وبدؤوا بتفتيش النسمات واحدةً بعد أخرى! كانوا يبطحونها بغضب، ويركلونها لأنها لا تحمل بطاقاتٍ شخصية! العصافير أيضاً لم تسلم من استجوابهم! ثم جاء صانع التُّهم الحصيف الخبير، حكَّ مؤخرته، جلس وبدأ يكتب بياناً لتذيعه الفضائيات على الجمهور: النسمات أيها الشعبُ الكريم مطلوبةٌ لنا، لأنها تشكل خطراً على أمننا الهوائي، كما تعلم يا مواطننا الغالي نحن لا نظلم أحداً، لكنَّ هذه الحقيرة السافلة فعلت الكثيرَ.. الكثير، من ذلك: * تسبَّبت قبل شهر بثلاث عطسات متوالية لواحد من أصحاب المعالي، وكان عنده زائر من دولة عظمى نحرص على إقامة علاقاتٍ معها، فنزل رذاذ العطسات الثلاث على وجهه مباشرة! * سعادة شيخنا الأكبر كان متجهاً إلى المسجد ليلقي خطبة يتحدث فيها عن فوز بلدنا بمرتبة العابد الأول، كما أخبره بذلك هاتف سماوي، فإذا بالنسمات تنقلب إلى ريح! سقط الشيخ الذي لم يعد يبصر طريقه فوق الدرج، وانكسرت ساقه! * يشكو أصحاب الأفران عندنا من نقص في مادة الطحين، ويظنون أن التقصير سببه نحن، لكنهم لا يعلمون أننا زرعنا القمح في جميع حقولنا، وعلى أكتاف الأنهار، وفوق الحيطان، غيرَ أنَّ النسمات الخائنة العميلة كعادتها قلبتْ نفسَها إلى رياح وهشَّمت السنابل! حكَّ صانع التُّهم مؤخرته مرة ثانية، ومضى يكتب: النسمات لا تنخدعوا بنعومتها، إياكم. إنها مسؤولة عن كل خرابنا.. تخلفنا.. بؤسنا.. كآبتنا وغيابِ الفرفشة من حياتنا، ولن تزدهر بلادنا إذا لم نتخلص من شرها. بعد تدبيج التُّهم امتلأت المعتقلات بالنسمات السجيبة، ففي غرفة صغيرة بحجم الحمَّام صاروا يزجُّون عشرين.. ثلاثين.. خمسين نسمة! وهذه: أخذت تصيح: أرجوكم لم أعد قادرةً على التنفس، أنا التي أُجدد الأنفاس أختنقُ الآن.. أختنق.. أختنق! ثم هتفت نسمة من زاوية المكان: لا سامح الله مَنْ تمنى أن يصبح نسمة مثلَنا، لا سامحه أبداً.. أبداً! ارتجفتُ وأنا أسمع صوتها، بكيتُ، وبلمح البصر تنازلتُ عن أمنيتي! * ٢٠٢٢/٩/٧
نسمة وأمنية
اقرأ أيضًا: خاطرة و كيف النجاة ؟ بقلم دميانه وجيه