من جماليات الإبداع في رواية” ليتل إيجيبت”
من جماليات الإبداع في رواية” ليتل إيجيبت” للأديب المهندس محمد فؤاد مسافر
هذه رواية جديدة تطرح الكثير من الأسئلة حول التاريخ وحول الفن وحول قضايا الوطن يصحبنا فيها الأديب المهندس محمد مسافر في جولة عبر شوارع وحارات القاهرة القديمة في القرن التاسع عشر الميلادي وصولا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وجزر إندونيسيا في جولة جغرافية وثقافية ممتعة حيث نبدأ في القاهرة والتحضير للسفر إلى المعرض العالمي في أمريكا حيث تعرض كل أمة تشارك في المعرض ما يميز حضارتها من مبان وعمارة وفنون وعبادات وعادات وهذه المعارض العالمية بدعة استشراقية كانوا يقيمونها في الغرب لينقلوا صورة عن بلاد الشرق وغيرها من بلدان نامية أو مستعمرة في ذلك الوقت ولا شك أن الصورة التي كانوا ينقلونها لم تكن صورة كاملة ولا كافية ولن أقول مشوهة لغرض استعماري متأصل في النظرة الغربية لبلادنا ولكن أزعم أنها صورة مصغرة ويجب أخذها بعين الحذر دون التسليم بكل ما فيها من تفاصيل ومنمنمات و زخارف وأزعم أن الأديب محمد فؤاد كان واعيا بهذه القضية منذ البداية فحرص على تقديم صورة شبه مكتملة ومصغرة ودالة بعمق على بنية المجتمع المصري وما يعتمل به من متناقضات في تلك الفترة التاريخية التي كانت في وسط و نهايات القرن التاسع عشر .
أقول كان محمد فؤاد واعيا بعمق فهو قد قدم لنا في روايته عالم القوادين والعوالم متمثلا في “عبده الأسود” وعالمه جنبا إلى جنب مع عالم الخواجات واليهود والإنجليز وعالم لمشايخ والنصارى بل وعالم الصنايعية والراهبات والجمعيات النسوية الأمريكية وعالم رجال السياسة والاقتصاد ومؤامرتهم وخططهم وغير ذلك مما يبثه في ثنايا سرده البديع وحواراته الشائقة .
جاء عنوان الرواية “ليتل إيجيبت” ممثلا بصدق لصورة مصر المصغرة التي قدمها في الرواية ونحن هنا بإزاء مصر المصغرة – الدولة – التي شاهدنا جزءا منها في فصول الرواية قبل السفر للمعرض العالمي وصورة مصغرة للبطلة الراقصة والتي أسماها الأمريكان “ليتل إيجيبت” فمصر تعتمل بالكثير من التغيرات كما أن حياة هذه الراقصة اعتملت أيضا بالكثير من التغيرات والتحولات فقد كانت أمها ابنة لشيخ وتربت تربية صالحة لكنها وقعت في براثن “عبده الأسود” ومن بعده وقعت ابنتيها فريسة له ليشبع بهما نهمه الجنسي ويبيعهن سلعة لراغبي المتعة الحرام وهذا الاسود كان أبوه مجرما عتيدا وممن يحترفون الدعارة ،فالأصل الوضيع لا شك سيجر صاحبه لمزيد من الفساد والضياع ،ولكن الأصل الطيب يرتد إلى جادة الطريق السليم إذا ما تهيأت له الظروف وهو ما حدث بالفعل مع الفاتنة “ليلت إيجيبت” التي أحبها الموسيقار الأمريكي وتزوجها وصارت تحترف الرقص ليس بوصفه مثيرا للشهوات بل بوصفه فنا راقيا يعبر عما يعتمل في الوجدان من مشاعر وأفكار وانفعالات وقد تعلمت ذلك في زيارتها لجاوة الإندونيسية وقد تعرفت على الأساطير الهندية و اصطبغت روحها بروح لطبيعة والحياة الفاضلة والفن الأصيل .
ولم تكن مصر وحدها هي التي تتغير فقد كان المعرض في أمريكا إيذانا ببدء عصر جديد ،عصر العلم والكهرباء،وعصر سيادة الولايات المتحدة وتأسيس مدينة شيكاغو ونسف المدينة القديمة لتنشا على أطلالها مدينة جديدة وتتشكل ملامح عصر جديد .
ولا ننسى أن كاتبنا قد استفاد من ثقافته الواسعة ورحلاته وقراءته التاريخية فنراه يطوف بنا في عصر جوهر الصقلي وتأسيس القاهرة وإعطائه عهد الأمان للمصريين ويقتبس الكاتب النص التاريخي المتعلق بهذه القضية ،كما أنه يتناص مع قصة سالومي ويوحنا المعمدان وغير ذلك مما أدخله الكاتب في سياق سرده الفني البديع وجاءت الحوارات في الرواية كاشفة عن أبعاد الشخصيات وملامحها ولاسيما في شخصية “كلارا” وعبدالهادي” ولاحظ معي دلالة الأسماء فقد كانت “كلارا” مثالا للنقاء والبحث عن الحقيقة الصافية كما كان عبدالهادي مثالا للرقي والهداية التي تليق بشيخ أزهري يعرف للحق وزنه وللإنسانية قيمتها بينما كان “عبده الأسود” عبدا للمال ووللجريمة وللشهوة الحرام .
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا ادعينا استفادة الكاتب من دراسته للهندسة ففي أوصافه دقة واضحة في تحديد الأبعاد والقياسات والحدود المكانية لمشاهده عبر الرواية مثل وصفه للمشربيات والأعمدة الفرعونية ومثل مشهد الرئيس الأمريكي وهو يضغط على الزر ليعلن افتتاح المعرض العالمي في إبهار واضح وحماس يجرف كل المشاركين في المعرض من ملل وأجناس بشرية متنوعة فكانت هذه الضغطة وتلك الحماسة إشارة بدء عهد جديد.
أستطيع القول في خاتمة هذه الكلمة المختصرة بأننا بإزاء كاتب واعٍ بما يقوم به ،يستطيع الدمج بحرفية وبراعة بين التاريخ الرسمي وأحداثه المسجلة وبين التاريخ الإنساني لشخوصه التي خلقها في روايته وصياغة سبيكة فنية تتمتع بالجمال والإفادة في آن معا.
عاطف عبد العزيز الحناوي
الإسكندرية 6 فبراير 2023
15 رجب 1444هـ