في الطــريــق إليـهـــا
………………………
ربما كان المقام لايسمح لي أن أبين كيف تسرّبت بذرة الحرّيّة إلى فطرتي فَنَمَتْ في دواخلي وكَبِرتُ معها، لكنّه يسمح لي أن أعزوذلك ـ بعيداً عن الإنشاء ـ إلى أبٍ وأم ٍكان سلوكهما كفيلًا بغرس هذه البذرة ورعايتها في طفولتي وحداثتي.
1ـ دروس :
في العام 1962، وكنت أبلغ عشرًا من السنين، أقدمت على الخيار الحرّ الأوّل لي: أن أتعلم
الخط العربي، هذا الخيار أوصلني إلى مكتب الخطاط المبدع بدوي الديراني، فتتلمذت عليه حتى وفاته عام 1967، كان حزني عليه بقدر محبّتي واحترامي له، وقد كنت أعي جيدًا دروس قلمه، وماله من
فضل في إتقاني قواعد الخطّ وموازينه حتى أصبحت خطاطاً مجودًا لكنني لم أكن قد وعيت بعد أن قبسًا من حرّيته كان قد كمن في دواخلي ليؤجّج فيّ روح الإبداع .
طيلة ترددي على مكتبه لم أرَلوحة من عمله منقولة عن الأسلاف، ولم أره يخطّ تلك العبارات التي كررها سابقوه حتى ابتذلوها، على رغم أنّه كان يتكلّم عنهم باحترام وإعجاب، كان حينما كنت أعرض عليه تركيباً خطيًا يناقشه من خلال علاقاته الخاصّة والإمكانيات الجماليه الكامنة به مشيرًا إلى مواطن القوّة والضعف فيه، ثم يقول :”المستقبل أمامك فلا تتعجل، أتقن القواعد ثم افعل ما يحلو لك “. وهذا ما أفعله اليوم مُدرِكًا أن الحرّية ليست الفوضى، وأن الجهل والتخلّف والضحالة والغرور لا تؤهّل أحداً لأن يكون حرّاً في أيّ من المجالات.
2ـ السؤال :
الحرية ؟: سؤالٌ أرَّقني منذ فتوّتي، أين تكمن هذه الحريّة؟ وما مداها؟ هل تكمن في دواخلنا أم خارجها؟ في الماضي، أم في الحاضر؟ في الكلّ، أم في الجزء؟ في الخاصّ، أم في العامّ؟ في الوعي، أم في البداهة؟ في الجوهر، أم في العَرَض؟ في السؤال، أم في اليقين؟ في الأصول، أم في الفروع؟
اتجهت إلى الدين علني أجد جوابًا، لكنّ الأجوبة مُسبقة الصنع التي يطلقها المشايخ، وما وراءها من مصالح، حالت بيني وبينه، ثم توهّمت أنني واجدٌ ضالتي في ظلّ الشعار الملعلع البرّاق “وحدة، حريّة، اشتراكية”، لكنني اكتشفت أنه ليس إلاّ لازمة للخطب الرنّانة الطنّانة التي ما برحت تلوّث أسماعنا، ورأيت الحرّيّة في ظلّه وقد أصبحت كلمة شوهاء جوفاء، بل قشرة تغطي عورة القمع والكبت والامتهان والاستبداد والاستغلال والجهل والتخلف والتفريط بالوحدة وبالاشتراكية ناهيك عن الحرّية والتحرّر، وكَبُرَ السؤال، ووجدتني بعد طول بحث وفكر مقتنعًا أننا منذ قرون تخلّينا عن حرّيتنا حتى نسيناها تخلّينا عنها لنعيش بُلَهنيّة و نومًا طويلًا، ابتدأ بسكوتنا عن نفرٍ باعوا لحاهم لتكون بساطاً تعبر عليه خيول الحاكم، فتغرس سنابكها في عقولنا وقلوبنا، و أعلنوا إقفال باب الاجتهاد، وإقفال باب الاجتهاد الذي أهديت مفاتيحه إلى أصحاب ذهنية التحريم والتكفير لم يكن ليقتصر على الشؤون الدينية، بل كان طبيعيًا أن يتعداها إلى نواحي الحياة و النشاطات الإنسانية كافّة، فما بالك بالفنون التي طالما حاول المُحرِّمون ليّ أعناق النصوص لتحريمها وقمع ممارستها، الأمر الذي لم ينجحوا فيه تمامًا، لكنّه ترك أثرًا كافيًا لكبح جماحها، فأصبح كلّ خروج عن المألوف في فن من الفنون بدعة وضلالة !
أصبح الشاعرالذي لاينظم على البحور التي تركها الأسلاف وبألفاظهم وفي أغراضهم الشعرية ذاتها، ولا ينسج على منوال صورهم وأفكارهم وأساليبهم اللغوية مبتدعًا وكذلك الأمر بالنسبة للمطرب والموسيقيّ أمّا الطامّة الكبرى فقد وقعت على التصوير(الرسم) الذي هبّت عليه رياح التحريم قروناً عّدة، رافقت مرحلة الانحدار الحضاري وسيطرة العثمانيين، وكانت كافية لقطع صلة المصوّر المعاصر في بلادنا بمدارس أسلافه الذين تعرضت آثارهم للحرق والتدمير فلم ينج منها إلّا ما تمّ نهبه وتهريبه، وما كان في بعض المكتبات الخاصّة.
قد يتوهم البعض أن العمارة والرقش والخـطّ العربي كانت في منأى عما أصاب الفنون الأخرى، غير أنّ واقع الحال يُثبت العكس، فقد تحوّلت كلّ الفنون المرتبطة بالعمارة إلى فنون تقليدية / سلفية لا تجديد فيها ولا تطوير، وهي التي لم تصل إلى ما وصلت إليه من رقيّ إلّا بفضل آلاف من المبدعين الذين قامت على أكتافهم الحضارة العربية الإسلاميّة، وسُجن الخطّ العربي في قفصٍ من ذهب اسمه القدسّية بحجّة أنّه خطّ القرآن، وأنه لم يعد ممكنًا إضافة شيء إلى جمالياته التي بلغت الذروة في العصر العثماني هذا العصر الذي بدأ عهده بشحن كل المبدعين والفنانين في بلادنا إلى بلاط سلاطينه، والذي يعود إليه الفضل الأكبر في تقنين التبعية والقهر والاستبداد والسلفيّة والتخلف والظلاميّة والجهل، وكذلك في ارتماء معظم زعمائنا وروّاد منوّرينا في أحضان غريمه المتمثل بالغرب الطامح، كردّ فعل لشعوب خرجت من دائرة الفعل منذ فرطت بمفاتيح عقولها لتعيش في موات امتد به الزمن حتى يومنا هذا.
قناعتي بما سلف علّمتني أنّ الحرّية كُلّ لا يتجزأ، وأن طريقها ليست مُعبَّدة، وأن على من يطمح إليها أن يتسلح بالكرامة والمعرفة والوعي والشجاعة والعناد، وأن يمضي في اتجاهها لتُعبِّد خطاه الطريق إليها. هكذا وجدتني ماضياً في مفازة، تلاحقني وحوشها، وتقرّحني أشواكها، ولا ضوء فيها إلاّ قبساتٍ اتّقدت في صدور فئة اختارت أن تُعبِّد الطريق، وتلك الجذوة المُتّـقدة في داخلي.
3ـ في الطريق إليها :
خطواتي الأولى لم تكن صعبة، فلقد استطعت أن أنتزع حرّيتي في اختيارالفرع الأدبيّ لدراستي الثانويّة، مُتخطّيًا الضغوط المعنوية لنظرة المجتمع إلى الفرع الأدبى على أنّه فرع الفاشلين والأغبياء، وضغوط الأقارب والأصدقاء الذين كانوا يرون في هذا هدرًا لتفوقي الدراسي، وضياعاً لمستقبلي، ويحّرضون والديّ على منعي من هذا الخيار، الأمر الذي فشلوا فيه لأنني كنت قد استطعت إقناع والديّ بصحّة اختياري.
كنت قبل ذلك قد انتزعت حقّي في العمل بعد مُعارضة من الأسرة حسمها اتّفاقي مع والدي على أن يتمّ ذلك في أوقات الفراغ، وألا يؤثرّ على دراستي؛ عملت كخطاط محترف منذ كان عمري خمسة عشر عامًا أو أقلّ وكنت قد تعلمت النجارة في العطل الصيفية، ومارست أعمالًا مختلفة منها التطريز بأنواعه، فكان العمل منذ سنّ مبكرة إلى جانب دراستي الفنّية الأوّلية في معهد أدهم إسماعيل مدرسة أغنت معارفي الفنيّة والعملية والاجتماعية والإنسانية، ومكّنتني من مواجهة الحياة بثقة جعلتني لا أتردد في دخول كلية الفنون الجميلة، التي طالما نُظِرَ إليها على أنّها كلّية للفاشلين، ولا أفق لها، وقد كان اختياري لدراسة الفنون الجميلة ثم تخصّصي في التصميم الجرافيكي مبنيًّا على اقتناع عميق ـ شكلّته الدراسة والتجربة ـ بوحدة الفنون وترابطها،وبأنّ الخط العربيّ لم يتوقف عن النمّووالتطوّرإلاّبعد أن حيل بينه وبين التفاعل مع الفنون الأخرى وأقفل باب الإجتهاد فيه، ذلك الباب الذي كنت مُصرًا على اختراقه لانتزاع حريتي في البحث عن حلول لمسائل واجهتني كثيراً في تعاملي مع الخطّ العربي، وكانت دراستي للفن، وفهمي لجوهره، رافداً مهمّاً غذّى قناعتي بأن الحّرية حياة الفنان، ودعامة التطور، وسدّد خطواتي في مواجهة تيارات ثلاثة كانت تستلب حرّية المبدعين في الارتقاء بالخط واللوحة الخطّية.
أوّل هذه التيارات هو تياّر الخطّاطين التقليديين المحافظين الذين يرون أن أيّة إضافة أو تعديل أو خروج عن القواعد والأساليب والأدوات التي ورثناها عن الأسلاف تشكّل هرطقةً وموقفاً معاديًا من الخّط العربي، ومحاولة للقضاء عليه، أما التيّارالثاني فهو تيارالمصّورين الذين تربّوا في ظل الكّليات الفنّية الغربيّة، التي كان من الطبيعي ألّا تضم أقسامًا للخط العربي وألّا تهتم بتدريسه، فنظروا إليه كمهنةٍ تقليدية، أو كفن شعبي في مرتبة أدنى من مرتبة الفنون الجميلة التي تعلموها.
وتمثل التيارالثالث بالحروفيين الذين توفّرت النوايا الحسنة للكثيرين من رواده الذين لم يقدّموا أنفسهم كحروفيين على رغم استلهامهم للحرف العربي ـ لا فنّ الخطّ ـ في التعبير عن هويتهم، لكنهم ظلّوا ينطلقون مما تعملوه في المدارس الفنية الغربيّة، لكن حسن نواياهم لم يَحُلْ دون أن يتحّول الاتجاه الذي اعتبروا روّاده إلى بديل مزيّف، وسلطة قامعة، وحجر عثرة في وجه أيّة محاولة حقيقية لتطوير اللوحة الخطيّة العربيّة، بدعم من المنظّرين الشوفينيين للفن القومّي الذين لم يعوا يومًا جوهر الفنّ، وبمباركة من شيوخ النفط الذين رغبوا في تزيين قصورهم بأعمال ملوّنة، لا روح فيها، مفصّلة حسب مقاييس الوهابيّة وجماعات “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وبتشجيع من أوساط فنيّة غربية مشبعة بروح الاستشراق الذي يرى فينا الآخر العجيب الذي يجب أن يُحنّط ويظلّ تحت المجهر.
لم يكن علي أن أتحررمن سطوة هذه التيارات فحسب، بل وأن أعمل على فكّ أسرالخطّ العربي من القوالب التي جُمِّد فيها، فمضيت بدأب النمل وإصراره، وبقوّة المعرفة والبحث، وبتحقيق الانسجام بين رؤيتي وأعمالي الفنية، واستطعت أن أُعبِّد جزءًا من الطريق كان من شأنه أن يُكرّس حرّيتي كمبدع يتسلّح بالموهبة والمعرفة فعملت في أعمالي الخطّية على إخراج الخطّ العربي من سجنه القدسيّ إلى الحياة الرحبة ونأيتُ بها عن المحتوى الغيبيّ إلى عبارات تخاطب العقل على مستوى المحتوى، والعين على مستوى الشكل الذي خرجت به من الدائرة المغلقة للتراكيب التقليديّة التي ما انفكّ الخطاطون أسرى لها منذ زمن طويل، إلى رحابة تشكيلٍ يزاوج بين القيم العامة للتشكيل والبُنية التشكيليّة للخطّ العربي وبروح حديثة مجددة، مُستفيداً من تجريدّيته الراقية التي مكنتني من الوصول إلى لوحة تجريديّة تحل معادلة الشكل والمحتوى، وتـُمكنُ قراءتها على مستويات عدّة تتجاوز جمال الخطّ، ممّا وسع قاعدة مُتلقيها وأخرجها من دائرة المحلّية والاستشراق، وقد كان من الطبيعي، في هذا السياق، أن أخرق بوعي كامل قواعد ونسبًا وأساليب وتقاليد حوّلها الجمود والجهل والسلفية إلى مقدسات، وهي التي لم تصل إلى ما وصلت إليه إلاّ بجهودٍ راكمها أناس مبدعون نظروا بعين ناقدة حّرة إلى تراث أسلافهم ليرتقوا به بخطّ موازٍ لارتقاء حضارتهم، وليحلّوا المسائل التي كان يطرحها التطوّر .
لقد أقنَعَت أعمالي جمهورًا واسعاً وكثيرين من النقاد والفنانين، غير أنّ سَدَنَة الخطّ العربيّ ذوي المرجعية العثمانية ـ على الرغم من تعبيرهم عن إعجابهم بأعمالي ـ حاربوني “سرًا” بتهمة الخروج على الخطوط الستّة التي قرّرالعثمانيون أنها منتهى تطور الخط العربي، واستنكروا عملي على تفنيد أساطيرهم ورواياتهم الغيبّية المتناقلة حول تاريخ الخطّ العربي وتطوّره الجمالي، مستندين إلى جهل فاضح بحقائق التاريخ وضحالة ثقافيّة حتي في ما يتعلق باختصاصهم، ناهيك عن الثقافة الجمالية العامة، لذا استبعدوني من المشاركة في محافلهم المقدّسة.
أما سلطات الفن التشكيليّ ـ في بلادنا ـ التي يشكل قوامها موظفون برتبة فنانين، وفنانون انطفأت جذواتهم، فهم مطمئنون ـ والجهل عمود الطمأنينة ـ إلى أن دورانهم في ساقية التقليعات الفنيّة الغربّية يمكن أن يلقي الأضواء عليهم، وهم يتجاهلون أعلام الفن التشكيلي من مصّورين وحفارين ونحاتين ومصممين ونقّاد في محافلهم العظمى، فما بالك بمن يَنظُرون إليهم على أنهم يعملون في فن متخلفٍ لا يرقى إلى مستوى فنون الفيديو والكمبيوتر والعروض الحيّة وما شاكل ذلك من فنون ما بعد الحداثة؟!
أراني أغفلت العائق الأعظم في وجه حريتنا، والذي كان موضوعاً لمشروع تخرّجي وهو “القمع والتسلط العسكري”، ربما لأنني ـ على الرغم من مصادرته لأدنى مقومات مواطنتي وما سببه لي من معاناة وتشرّد وحرمان من الاستقرارـ أعرف أن ماسلبه مني لايقاس بما سلبه من الوطن ومن خيرة أبنائه.
الطريق ليست معبّدة، لكني اخترت الحرّية، دفعت الكثير لأُبقي جذوتها مُتّـقِدَة في داخلي، ليس في الفن فحسب، فالجزء لا يغني عن الكلّ، وقد صدق بدوي الجبل في قوله:
أنا أبكي لكلّ قيد فأبكي … لقريضي تَغُـلّه الأوزان .
القاهرة 1998
( معــاد )