حوارات
ليفانت يحاور الكاتب السوريّ حافظ قرقوط
حوار مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر المفتوح
الثقافة في زمن جائحة كورونا العالمية
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية
مع الكاتب السوري، والناشط في حراك المجتمع المدنيّ
حافظ قرقوط
حوار: ليفانت
الكاتب والسيناريست السوري أ. حافظ قرقوط، مواليد 13 مارس عام 1963 في دمشق حاصل علي شهادة الهندسة الزراعية – جامعة دمشق 1988 شارك في كتابة دراما التلفزيونية: مرايا 1998-1999، أولاد القيمرية 2008- ألوان من رمضان 2000- فرصة عمر 2001، صدى الروح 2006، وجه العدالة، يا صديقي، منع في سوريا، أمل بكرا أحلى. حلقات في مسلسل سيرة الحب. راديو: شاميات راديو MBC ، برنامج إذاعي- إذاعة هنا الوطن 2003-2004، برنامج صحافي. كلمة ورأي 2015، من مؤلفاته مسرحية (ملف)- برعاية وزارة الثقافة اللبنانية بيروت عاصمة الثقافة العربية 1999 (مئذنة الحرية) رواية، من يأكل الحصرم… كما كتبت وأخرجت مسرحيات أنجزها الأطفال وهي ابن سينا، الترشيد والبيئة وأرى بعينيك وهي حول الأم والطفولة.
أهلًا وسهلًا بضيفنا الكريم، أ. حافظ قرقوط، الذي ارتبط اسمه، بالدفاع عن الشعب السوري وثورته من أجل الحرية والكرامة، بعد أن نستمع من حضرتك عن المولد والنشأة والتكوين وتجربتك في السفر والترحال والتكريمات والشهادات المميزة التي حصلت عليها، وعن المناصب والمهام التي مارستها، لاسيما في العقد الأخير؟ نأمل أن تخبرنا عن رحلتك السياسية التي خضت فيها حين كان التزامك بمنطلق علماني التوجّه حتى انحيازك وظهور موقفك الإيجابي من الثورة السورية التي انطلقت في 15 مارس/ آذار 2011م؛ إذ كوّنت الثورة – لحضرتك – رؤية جديدة تجاه ما انشغلت به طوال عمرك، حتّى بات اسم حافظ قرقوط معلمًا من معالم الكفاح السلمي على درب بناء دولة مدنية في سوريا، والحق أننا نعرفك من الساعين – ولا تزال – في دروب الثقافة المتحررة من الأوهام القروسطية، ماذا تتوقع؟! أحصل شعب سوريا على حقّه في الحياة بعيدًا عن القهر والفساد والطائفية والجهل؟ أيبني مجتمعًا مدنيًّا بعد هذا الخراب والموت الذي طال بنيته طوال عقد من الزمن؟
في البداية أقدم شكري لمركز ليفانت على هذه المبادرة بهذا اللقاء وهذا التقديم الطيب.
ولدت عام 1963 لأسرة ريفية تعمل بالزراعة، والدي حمد قرقوط أحد مجاهدي الثورة السورية الكبرى عام 1925، كان محباً للعلم وقد دفعنا باتجاه تحصيله، أحمل شهادة هندسة زراعية من جامعة دمشق منذ عام 1988، عملت بشهادتي لعدة سنوات بسوريا ثم تفرغت لهوايتي بالكتابة، كتبت للمسرح والإذاعة والتلفزيون وكان لي عدة مسلسلات درامية عرضت في عدة محطات تلفزيونية محلية وعربية، حصلت عام 2005 على جائزة من صندوق الأمم المتحدة للسكان عن نص بعنوان من يأكل الحصرم له علاقة بالتربية والأسرة، وأيضاً كتبت بعد الثورة السورية عدداً كبيراً من المقالات والتقارير الصحفية لعدة صحف ومواقع إلكترونية وكان الجهد منصباً حينئذ على محاولة تأسيس صحافة سورية جديدة وبديلة لما كان سائداً لتقديم وجه سوريا الجديد والمساهمة ولو بالقلم لفتح فرص لأجيال جديدة صاعدة بعيداً عن احتكار السلطة لمنافذ تقديم الإبداعات والفكر.
كان لإيماني بالحقوق المدنية للبشر أهم دافع الالتزام بقضايا الإنسان اليومية ومحاولة الإضاءة عليها، وهي ما جعلتني أنتمي إلى الحراك الثوري في بلدي سوريا، وخاصة أنني دائماً كنت بين الناس بحياتنا الطيبة العادية ولم أبحث من خلال عملي بالدراما عن تشكيل ونسج علاقات لها طابعها الخاص الذي يميز هذا المجال ويعرفه الجميع، فحرصت على أن تبقى حياتي طبيعية بين أصدقائي خارج الوسط الفني، وبالتالي عندما ابتدأت الثورة وانحاز غالبية شخصيات هذا الوسط المعروفة للنظام وبرروا القتل بانتهازية مؤلمة كنت أنا بالصف الآخر مدافعاً عن المدنيين بحقوقهم وصيانة كرامتهم.
حاولت بالداخل السوري ضمن نشاط مدني أن أساعد المهجرين داخلياً وأيضاً إيصال صوت الناس بلا تشويه مواربة ولكن بعد أن ضاقت الأمور أمنياً علينا كأسرة، وأصبحت التهديدات مباشرة لنا جميعاً زوجتي وأولادي وأنا، ومع توقف عملي بشكل كلي لرفضي العمل مع مؤسسات النظام في تلك الفترة، غادرت إلى لبنان في 2013، ثم منها إلى تركيا وبقيت فيها حتى عام 2018 حيث أصبحت الحياة اليومية تضيق أيضاً علينا كسوريين ويمنع تنقلنا إلا بأوراق خاصة فغادرت إلى اليونان ثم هولندا والآن أعيش بالسويد.
عملت خلال السنوات الأخيرة في عدة مؤسسات إعلامية تابعة للمعارضة منها قاسيون وراديو حارة والسوري الجديد ومركز حرمون للدراسات ضمن موقع جيرون، وكتبت مقالات وتقارير تلفزيونية أو ورقية بشكل مستقل لعدد من المواقع والصحف وكذلك بعض الأفلام الوثائقية حول فترة الوحدة بين مصر وسوريا والوجود السوري في لبنان والعلاقة الروسية السورية. وقد حصلت في تركيا على عدة تكريمات من هيئات سورية تعنى بالفكر وبالقصة القصيرة.
الثورة السورية هي حصيلة أو نتيجة طبيعية بعد أن ذاق الشعب السوري الكثير من الويلات بسبب نظام الأسد لكن بعد الثورة عمد النظام على فتح المجال لكل أنواع العصابات والميليشيات ووجدت إيران مناخاً جيداً لإدخال ميليشياتها التي مارست سلوكاً طائفياً ساهم بدوره بتوالد تشكيلات مسلحة متطرفة دينياً من أطراف محلية وجدت داعماً لها لتشكيل فصائل مختلفة لا تمت لأهداف السوريين بصلة بل تفرعت عن تنظيمات إرهابية كتنظيم القاعدة، وأثرت على توجهات عدد من العناصر المحلية واستغلت أوجاع الناس وتشردها وتخلي المجتمع الدولي عن دعم الوجه العلماني في سوريا مع تدفق الملايين إلى جيوب ومشاريع التطرف، كل هذا دفعني للعمل جاهداً من خلال القلم للإضاءة على هذا البلاء المتعدد الأوجه والذي سيكون أثره على أجيال عديدة ربما تغير شكل وتوجه المنطقة كلها.
كثيراً ما شعرت بالخذلان والألم وخاصة بوجودي بتركيا، بجوار مؤسسات معارضة يتم تسييرها بعقلية شللية وأيضا غير مهنية، حيث بدأت العديد من آمالنا تتضاءل قبل انتقالي إلى أوروبا، في الواقع مؤسسات المعارضة الناشئة كان بعضها قريباً من فكر النظام وتعامل مع السوريين بفوقية وعنجهية صاحب المال والقرار، وبإحدى زياراتي لما سمي بالحكومة السورية المؤقتة راقبت عن عمد تصرفات بعض الموظفين والوزراء، كيف يتعاملون ويجلسون ويتحركون، إنها كوميديا سوداء لجوع قديم للسلطة وليس للتغيير، وهذا أثر سلباً على آلاف الأشخاص الذين لو أتيحت لهم الفرصة لكانوا أكثر انسجاماً مع آلام أهلهم السوريين ولما وصلت الأمور إلى ما هي عليه، في تركيا كانت تناقضات السوريين مؤلمة وكان واضحاً أن تلك المؤسسات بدأت تدور في حلقة مفرغة وبوضوح وثقة أقول بسبب قربي من هذا المشهد ككاتب وكعضو أمانة عامة مستقل في إعلان دمشق ولقاءاتي مع بعض التيارات والشخصيات العامة، انطبعت بذاكرتي مفارقات مؤلمة بداية من التعليم للاجئين إلى الإغاثة ومنظمات السلم الأهلي والإعلام والكثير غيرها.
وباختصار فإن عسكرة الثورة وربط بعض الشعارات المتطرفة في عقول وبنى محركي الفصائل وتعاملهم بعنجهية مع المدنيين وبطرق تذكر بممارسات الأمن السوري، جعلت الكثير من المدنيين والناشطين ينأون بأنفسهم جانباً، حاولت كما الكثير غيري إظهار الجانب المضيء من الثورة وتنقية الصورة لأجل أطفال سوريا وأسرهم المنكوبة من خلال الإعلام واللقاءات العامة والخاصة، ولكن صوت البنادق كان أقوى من أصواتنا جميعاً إلى أن بدأت مسيرة أستانا والتفاوض وانتهى جزء كبير من فعل تلك الفصائل التي اعتقدت أنها حررت مناطق جغرافية باعتبارها مقاطعات وإمارات لها تستثمر وتقرر مصير من تحت قبضتها بما فيها سجونها الخاصة وأنظمة قمعها. هذه الخسائر الكبرى على الرغم من أثرها المدمر إلا أنها كانت أيضاً دافعاً جديداً للكثير من السوريين المؤمنين بحق الناس بامتلاك قرارها ومستقبلها للمتابعة بثورة على كل هذا الغث، ولا شك التقينا عبر الوسائل المتاحة وما زلنا في محاولات مختلفة كسياسيين سوريين وكتاب وأفراد معنيين بالشأن العام للخروج بتصورات عملية تخرج سوريا من عنق الزجاجة ولكن مازالت على ما يبدو الإرادة الدولية غير ناضجة لتيسير أي حل. لكن نضالات الشعوب حركة مستمرة متدفقة ودائما لها مفاجآتها، وأثق دائماً بإرادة الشعوب، والسوريون مهما كان هذا الليل حالكاً، سيعيدون تثبيت خياراتهم وسينهزم أصحاب المشاريع الفئوية والمتطرفة والمتغطرسة ولكن الثمن مرتفع للأسف. سأذكر مثالاً هنا عن والدي، لقد لجأ الثوار سوريا في الثلث الأول من القرن الماضي بعد تقهقر الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الأطرش ضد الاحتلال الفرنسي إلى الأردن والسعودية نحو 11 سنة ، لكن بالنتيجة ورغم آلام اللجوء والفقر الذي عانوه عادوا وانتصرت إرادتهم، وهذا ما أراه لمستقبل السوريين.
الحق أن سيرتك الذاتية والإبداعية في الانتصار لقضية شعب سوريا شرف لحضرتك، كما أننا في مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر نشرف بحوار مع شخصية جالت في ميادين عديدة، سياسية وثقافية.. والسؤال: ما الذي جعل الأستاذ حافظ قرقوط أن يتجه نحو قضايا تتعلق بمؤسسات المجتمع المدنيّ؟ ما الذي جعله يساوي بين زيف علمانية نظام الحكم السوري والمعارضة السورية على السواء؟ حبذا لو تحدثنا عن تجربتك الثرّة في المجالات التي اشتغلت ضمن أطرها، وأن تتحدث عن هذا الزيف الذي نشهده في مسارات سياسية في زمن الثورة؟
لقد عانت سوريا منذ أكثر من 60 عاماً من حكمٍ ديكتاتوري تأسس على الطريقة الشمولية التي سادت منذ مطلع القرن المنصرم كنماذج حكم في مختلف مناطق العالم، وحين استلم حافظ الأسد السلطة بعد انقلابه على رفاقه بحزب البعث عام 1970، رسخ مفهوم الأوليغارشية في إدارة نظام الحكم والدولة السورية بكل مؤسساتها، وهذا أدى إلى اختصارها أو حصرها كشركة أو مزرعة ذاتية للأسرة، وتحولت سوريا الغنية جداً بمقدراتها وطاقاتها إلى دولة تعاني من الفقر والحاجة والتضييق المعيشي والسياسي وحول متطلبات الناس الأساسية إلى شعارات فارغة من المضمون ومستندة على القضايا العربية الكبرى التي بدورها أفرغها من مضمونها واستهلكها وسخر كل ذلك بطريقة أنهكت المجتمع وحولت جزء كبيرا من أبنائه إلى باحثين عن فرص للنجاة خارج سوريا، فمنهم من هاجر إلى أوروبا أو الأميركتين أو اغترب إلى الخليج العربي للبحث عن لقمة العيش والإحساس بالأمان، كذلك في مدة ليست قصيرة بدأت بالثمانينات اتجهت العمالة السورية إلى لبنان وعلى الرغم من معاناة لبنان من الوجود السوري إلا أنه كان مصدر عمل للكثير من اليد العاملة السورية لأجل قوت يومها، فتصور مفارقة الزمن أن لبنان محتل من نظام الأسد بينما العمالة السورية تبحث عن قوتها اليومي بلبنان، لقد وصلت بعض أرقام السوريين العاملين بهذا البلد الشقيق الصغير لقرابة المليون، بينما مقدرات سوريا كانت تذهب إلى بنوك وحسابات آل الأسد والمقربين منهم، ولذلك عندما هتفت حناجر السوريين لحريتهم، كانت تلك الأصوات ناتجة عن تراكمات كبيرة وعميقة في نفوس أبناء المجتمع، وقد عانت زيادة على ذلك من قبضة أمنية محكمة ومجازر وقتل جماعي كانت تتم بالعتم ولم تصل إلى أسماع الكثيرين بسبب طبيعة وتركيبة النظام وإغلاق البلاد إعلامياً وسياسياً وحقوقياً، ومع مطالبة الناس بحقوقها تلاقت مع ما كنت أؤمن بضرورته من سنين مع العديد من السوريين كإنسان أولاً وككاتب يؤدي واجبه تجاه أهله وأبناء بلده وتجاه الإنسانية وهذا أساس للكاتب المنتمي لواقعه وإلا تحول إلا مرتزق أو مأجور.
للأسف تشكلت في موازة ما قام به النظام من عسف وظلم، هياكل للمعارضة السورية أقل من مستوى ما كان يحتاجه الشعب السوري ومارست دورها وكأنها مرآة لهذا النظام، أغرقوا الناس بتفاصيل لا قيمة لها وتبنى بعضها شعارات أيديولوجية فتحت جراحاً عميقة داخل المجتمع، منها له خلفية قومية ما بين عربي وكردي وتركماني وغير ذلك ومنها ما هو طائفي أو ديني، وبهذا تحول جزء من الصراع إلى خنادق جانبية عمقت الجراح، ويمكنني القول بعد كل تلك السنوات إن شعارات العلمانية لدى النظام والمعارضة هي شعارات وهمية بينما الممارسات هي عقائدية لها خلفيات لا ترتبط بالوطنية السورية، وزاد من حدتها التدخل الدولي وبأخص الدخول الإيراني المكثف تحت شعارات دينية ساهمت بخلق اصطفافات جديدة لم يتعودها السوريون، أيضاً تركيا استغلت القضية السورية لمصالح سياسية داخلية ومع غياب النية الدولية للحل وغياب الدور العربي الفاعل والداعم إيجابياً، تشكل المجلس الوطني بطريقة أشبه ما تكون ارتجالية وتوزيع مناصب ترضية لأفراد وليس لهدف تمثيل الناس، ثم تشكل الائتلاف بذات العلل وربما أكبر وتصرف أيضا بطريقة توزيع مقاعد ترضية لشخصيات وهياكل سورية ولدول وسفارات أيضاً، ونتج عنه حكومة مؤقتة كانت بلاء أكثر منها أداء، وافتتحت مكاتبها لخدمة موظفيها بطريقة شللية ضيقة وأشاحت بوجهها عن مشاكل السوريين وحتى عن الكفاءات المختلفة التي كان يمكنها أن تنهض بالمؤسسات المعارضة وتبدأ بناء دولة بشكل سليم نظراً لحجم المال الذي تدفق عليها، هذا كله انعكس أيضاً على دعم التعليم والصحة والإعلام وغيره العديد من العناوين، فالمدارس المعنية باللاجئين على سبيل المثال بتركيا كان جزءاً كبيراً من مناهجها تعليم ديني بما فيها النشاطات المختلفة للتلاميذ الصغار مع توظيف معلمين أيضاً بناء على علاقات شخصية أو توجهات دينية وليس كفاءات، وعلى ذلك مارست المعارضة دوراً إقصائيا لكوادر المجتمع وساهمت بإدارة الصراع مع النظام وليس بالبحث عن مخارج وتوجيه البوصلة بشكل سليم، حتى تمثيل الأقليات تعاملت معه كديكور أمام الغرب أو الداعم المالي لتخفي وجهها المبني على حالة دعوية عقائدية دون النظر إلى معاناة الناس وطريقة تقصير طريق الآلام، بل غالبية منظمات المجتمع المدني التي أنشئت بسبب معاناة السوريين بما فيها منظمات المرأة والسلم الأهلي والطفولة والرعاية كانت جلها للارتزاق الشخصي وتمرير الوقت وتشويه مطالب الناس. بالنتيجة أمراض عقود من التهميش السياسي والحقوقي والعمل المدني انعكس على بنية وأسلوب وأداء المعارضة وخالطها الكثير من الأنانية والفردية وهذا ما استغله نظام الأسد ليوغل اكثر بدماء السوريين.
من مآسي أطفال بلدان في الشرق الأوسط وأفريقيا؛ ما تقشعر لها الأبدان، مآس وقضايا؛ قلما عالجتها السرديات الفكرية والسياسية والإبداعية العربية، ومنها ختان الفتيات، وجرائم الشرف بحق النساء، وأحوال تشرد أطفال الشوارع، وتسليح الميليشيات التكفيرية والطائفية للأطفال وإجبارهم على عمليات انتحارية، ومشكلة الجندر وإشكالية المثلية واعتداءات جنسيّة على الأطفال من قبل كبار يلبسون ثياب التقى والإيمان كذبًا، عدا عن الاعتقالات والإفقار والجوع والتهجير وغير ذلك، سؤالنا، هلّا تحدثنا عمن عالج من مفكري وأدباء العربية – على قلتهم – موضوعات تختص بهؤلاء المهمشين؟ وإلى متى يبقى مفكرونا وأدباؤنا العرب، في إفريقيا وبلدان الشرق الأوسط؛ متناسين الموضوعات المسكوت عنها؟ أليس التسلّط السياسيّ على الكيان الثقافي في البلدان العربية العامل الأكثر تعطيلًا لطاقة الفكر والإبداع العربيين؟
من مآسينا الكبرى بالواقع هو التقليل من شأن بعض الإشكاليات في مجتمعنا وأيضاً تلوين حياتنا بالشعارات البراقة التي تخبئ خلفها عيوب جمة، بينما هي تدمر كيان المجتمع وتفتته من الداخل، ومنها التقليل من أهمية العمل والدراسة والبحث لفهم ما تحتويه الطفولة العربية من تهميش فكري ونفسي واجتماعي وإعلامي وسلوكي، وعدم وجود مساحة للعمل الجاد لأجل فهم مكنونات النفس البشرية إن للطفولة أو لمن يؤثر بالطفولة وهي الأسرة والشارع المجاور والمدرسة والإعلام، ولقد اعتقدت المؤسسات المختلفة أن تقديمها وجبة إعلامية درامية ضمن برامج الطفولة أو كتيب صغير ترفيهي فيه عدد من القصص التوجيهية أو ندوة معينة بساعة محددة أنها أنجزت مهمة عظيمة، فيما الحقائق بعيدة عن ذلك، للأسف نحن مجتمعات تعيش على نبش الماضي وتقديمه كوجبة مليئة بالقيم باعتباره حالة ملهمة تدفدغ المشاعر، حتى لو كان ذلك الماضي مليء بالعنف والقتل والحرب التي نعتقد أننا من خلال ذلك نعلمه درساً في الشجاعة، إننا نفتقد للعقل الناقد والتخصصي في طرح قضايا الطفولة، لذلك نرى سهولة تجنيد الأطفال ليس في البيئات المهمشة فحسب، بل في كافة طبقات المجتمع، إن مناهجنا التعليمية التي ترهق الطفولة بالمادة الحفظية ولا تشجعها على البحث والاستنتاج وتقديم الفكرة ولا تشجع على القراء نهائياً، فالتعامل مع الكتاب في الدول التي انتقلت إلى مرحلة الرفاه يبدأ من تشجيع التلميذ على قراءته واستعارته وإعادته واحترامه، هو نوع من الحصص الدراسية الأسبوعية، لذلك يمكن أن تلحظ بشكل كبير كيف أن العديد من رواد المكتبات العامة هي عبارة عن أسر مع أطفالها ولهم أجنحة خاصة منظمة بطريقة مذهلة بما فيها مقاعد الجلوس وكأنك في مسرح أوحديقة تتضمن رفوف عليها كتب تخص الطفولة.
إن مواضيع الجنس والاعتداء على الأطفال والاتجار بهم، وحياة التشرد حيث حياة أطفال الشوارع البعيدين عن المدرسة، وتوسع دائرة الفقر في كثير من الدول بالمنطقة، هي مسائل على غاية كبيرة من الأهمية لدراستها والكتابة عنها، وتفتقد مكتباتنا لدراسات شجاعة وواضحة بهذا الخصوص، طبعاً لا يخلوا الأمر من بعض المجتهدين هنا أو هناك ولكن بالنسبة لحجم الكارثة هناك قلة بذلك، سببه بالأساس أن هناك رقابة صارمة من السلطات العربية حول هذه العناوين، وهناك رغبة بتجاهلها باعتبارها هامشية أو تشوه ادعاءات إنجازاتهم، وهناك أيضاً إعلام تؤديه عقول رقابية غير متخصصة سوى بالموانع، بينما لا تقرأ بهدوء ولا تتأمل الفكرة، وهذا ينعكس أيضاً على المرأة بالمجتمع ونظام تشكيل الأسرة، بل هناك الكثير من مشاكل الطلاق وتفتت الأسر له أسبابه المرتبطة بشكل وثيق وتبادلي مع هذه العناوين، في سوريا الآن هناك مئات ألوف الأطفال لم يتلقوا تعليمهم بالوقت والعمر المناسب في السنوات الماضية وهي أزمة مازالت مستمرة بلا أفق، عدا عن أزمة اللجوء والفقر والنمو لسنوات بظروف غير طبيعية، كذلك استغلت بعض الجهات المتطرفة هذه الأزمة من خلال رغبة الناس بتعليم أبنائها بأي ثمن وعدم وجود بدائل متاحة، فظهرت مدارس بالمئات في شمال سوريا نصف منهاجها أو أكثر مرتبط بفكر سلفي يلغي الآخر، أو تعليم ديني فقط وهذا لاحظناه بأعيننا وليس مجرد قول، كذلك نمت في سوريا أجيال في مدارس لها مناهج مختلفة حسب الجغرافيا لوجود سلطات مختلفة، على سبيل المثال هناك سلطة نظام الأسد ومناهجه في مناطق سيطرته، وهناك مناهج في أماكن سيطرة جبهة النصرة، وهناك مناهج في مناطق سيطر عليها تنظيم داعش لفترة طويلة ومناهج في أماكن سيطرة بعض الجماعات الكردية فيما يعرف بالحكم الذاتي، كذلك هناك مناهج تخص الدول في أماكن توزع الأطفال بدول الجوار، كلبنان وتركيا والأردن والعراق، هؤلاء الأطفال أيضاً كبروا تحت ضغط ومشاهد الحرب والموت والتشرد والفقر وعدم الاستقرار وغير ذلك مما يولد سلوكيات غير طبيعية، هؤلاء بالنتيجة أبناء بلد واحد، ترى ما هو شكل المستقبل الذي سيكونوا فاعلين فيه، ونحن بهذا نتكلم عن ملايين الأطفال ولمدة تقاس بالسنوات ومازالت مفتوحة للمجهول، هل يمكن تخيل حجم المأساة، وخاصة أنه لا يوجد مؤسسات دولة معنية بذلك ولا مؤسسات معارضة حريصة على فتح آفاق المستقبل ولا هيئات دولية تعتمد على أشخاص يريدون بناء دولة، بل مازال واضحاً أن حتى التمويل الدولي للطفولة السورية يذهب باتجاهات قيها الكثير من الارتزاق للأشخاص المتمولين وقليل للتأسيس البنّاء للأسف، كل هذا يحتاج ليس فقط لبحوث ودراسات وأقلام شجاعة، بل يحتاج لخطط عميقة على كافة الأصعدة لفتح منافذ المستقبل، وإلا فالكارثة القادمة على شرق المتوسط كبيرة بعد انتهاء الحرب، والمنظمات الدولية حتى الآن هي منظمات دعائية لتلميع الأخطاء وإعادة إنتاجها وليس لاجتثاثها الذي يبدأ من بناء الطفولة وفتح العناوين الشائكة دون مواربة أو مجاملة للوصول إلى تنمية شاملة.
كيف تنظر إلى المشهد الثقافي السوري؟ هل ما يزال يحمل ميزات الواقع الثقافي العربيّ؟ أي أما يزال يتصف بالعدمية والأمية الثقافية وانحطاط مستوى القيم الأخلاقية في مؤسسات السياسة المسيطرة على الأنشطة الثقافية، على ما بات معروفًا لدى قلة من المثقفين الواعين؛ لحقيقة معضلة الثقافوية المنتشرة بيننا؟ أم بدأت تظهر خلال العقد الأخير معالم ثقافة بديلة، تسعى مع فاعليات ثورة الربيع العربي في دروب التغيير الشامل؟ وبرأيك، كيف بإمكان المثقف العضوي، أو الهووي، أن يستزرع وعيًا مختلفًا في المجتمع العربي، لاسيّما أننا نعيش في مرحلة تاريخية مفصلية إبان الثورة المنتشرة في معظم الأقطار العربية؛ إذ احتشدت المآسي الجماعية والحروب الأهلية وازداد القهر والإفقار والجهل والفساد في معظم الدول العربية، تُرى.. كيف انعكست هذه الأحداث الخطيرة وتداعياتها على الفكر والثقافة والأدب والسياسة، هل رصدتِ حضرتك من موقعك بصفتك مثقفًا عضويًّا وناشطًا ًمدنيّا معالم درب جديد يؤسس لرؤى سياسية واجتماعية مغايرة لدى شباب جيل الألفية، يؤصّل لكتابات إبداعية وفكرية مختلفة عما قدمته أجيال ما قبل الألفية؟
الأمية الثقافية، تعريف استهواني في هذا السؤال، قد يختصر الكثير من السرد والتحليل، لا شك انعكس التخلف الذي عانيناه على صعيد بناء المؤسسات وأركان النهوض بالمجتمع، على المشهد الثقافي برمته، ولعل الديكتاتورية التي حكمت سوريا بقبضة أمنية فولاذية عمدت بشكل جدي على تهميش الثقافة كونها غذاء للروح والعقل وتغير من مفاهيم الناس وتفتح آفاقهم لمستويات بعيدة، واستعاضت عنها بثقافة مصنعة ومتخمة بالشعارات الجوفاء غير البناءة، غايتها وضع سقف لمستوى الإبداع الفردي والجماعي، فتراجعت أعداد الصحف والمجلات إلى رقم مرعب اقتصر على ما تمرره وزارة الإعلام والثقافة من خلال رقابة صارمة لعدد محدود من أوراق ثقافية وإعلامية تمثل فكر حزب البعث الحاكم بصفته قائدا للدولة والمجتمع كما داء بدستور سوريا، ومنع أي اجتهاد خارج ذلك، فعمد الكثير من محبي القراءة والثقافة للبحث عن بدائل من لبنان الذي كان المنفذ الوحيد على الرغم من كل جراحه، ولكن كل ذلك لم يشكل مشهداً ثقافياً ناضجاً يمكن البناء عليه على مستوى وطن بصفته خميرة قد تتفاعل، ليس بسبب غياب الكادر أو الإنسان المثقف أو المبدع بل بسبب غياب البيئة والمناخ والأدوات ورسوخ حالة الخوف والتوجس من الغد المجهول مع دوامة البحث عن لقمة العيش وما إلى ذلك، وبدأ وكأن المثقف في سوريا هو الإنسان الفقير المرتبك، بينما ظهرت كتلة تم تسويقها على أنها مجموعة المثقفين السوريين الذين ترعاهم الدولة وتفتح لهم منافذها وتسوقهم بمناسباتها كافة، وهم بالحقيقة جزء من هيكلية وبنية نظام حكم وليس جزء من مشهد ثقافي، نتج بسبب ذلك لدينا فراغ كبير على مستوى الكاتب والقارئ، وخاصة مع ارتفاع سعر الكتب على الطبقة التي ترغب بالقراءة، كما أن الطبقة الوسطى تم تهميشها وتذويبها مع الطبقة الفقيرة وبعض منها تسلق كإنتهازي إلى الطبقة الحاكمة.
أثر تدهور المشهد الثقافي العام حتى على السينما وإنتاج المسرح، فعلى سبيل المثال كان بالعاصمة دمشق عدة دور سينما وكذلك في كل محافظة، ثم بدأت بالتدهور وأخذت تغلق أبوابها واحدة تلو الأخرى وهذا حدث قبل تقنيات البث عبر برامج الميديا أو مواقع النت كي لا يقال أتها هي السبب، والأمر نفسه ينطبق على المسرح، ما عدا بعض المسرحيات التجارية المحدودة والتنفيسية بعلم السياسة وليست البناءة، بينما ما سمي بالمسرح القومي أو دائرة المسارح التابعة لوزارة الثقافي عمدت على الإكثار من النصوص المترجمة ومنعت باب التجريب والتفاعل والبناء الفكري لمسرح محلي، وغيبت عنه التمويل والدعم والعمل، وتركت الفعل المسرحي كله عبارة عن حالة ارتزاق بسيطة لدائرة مصغرة تستفيد من الميزانية المرصودة من خلال النصوص المترجمة، ولم تسمح للتجربة بأن تطور ذاتها لتصل إلى مدرسة وثقافة وطنية، وهذا أبعد التفكير عن محاولة الإبداع والكتابة المسرحية، وطبعا ينطبق ذلك على روح الشعر والقصة والرواية، وبقي الكتاب يعانون من هذا التضييق ومن تحكم وزارة الثقافة. لكن تبقى بعض الأسماء لها حضورها الممتد ولا يمكن تجاهله ككتاب سوريين، ولكن لو تأمنت بيئة جيدة في وطن أقل تضييقاً عليهم وعلى الثقافة لقدموا ربما أضعاف ما قدموه، ولا أريد أن أدخل في التسميات بل المتابع للمشهد الثقافي السوري يعرف تلك الأسماء على محدوديتها.
المشهد الثقافي برمته بعد الثورة من الواضح أنه حتى اللحظة مولود غير مكتمل، لكن لا شك بدأت نسائم الحرية تتغلغل في أنف وجوف جيل جديد على مستويات مختلفة، صحيح أن الحرب ما زالت رحاها دائرة وأن الاستقرار لم يأخذ مكانه ليتم تقييم أو رسم خطوط بيانية للحركة الثقافية، إلا أن بوادره من شباب سوري وكوادر سورية مختلفة في دول اللجوء المتعددة أصبحت واضحة، ويمكن تلمس خطواتها لأسماء عديدة وخاصة في مجال القصة القصير والرواية وكذلك على صعيد إعداد السيناريو، لكن يبقى الاستقرار وما ينتج عنه هو المعيار في الدول، الآن هناك أدب الحرب والسجون واللجوء، وهو مهم لتأريخ الحالة من خلال الثقافة، لكن أيضاً غياب ثقافة القراءة هي مشكلة أخرى تعاني منها سوريا بل والمنطقة العربية كلها، وهذا سيكون له أثره دائما على المشهد الثقافي وآن للشركات المنتجة ولرؤوس الأموال أن تتبنى دعم النهضة الثقافية في بلداننا وتدعمها كما في الغرب من خلال تبني الإبداعات والتشجيع على الكتابة، فبناء ثقافة المجتمع هو الركن الذي يؤسس قاعدة صلبة لأجيال جديدة تدرك قيمة الكلمة، بحيث تصبح الثقافة سلوك عام يبدأ بالتعامل مع أدواتنا والبيئة واحترام حق الآخر ورأيه ورغباته ووقته وصولاً إلى احترام ثقافة العمل واحترام القانون ووما إلى ذلك، في الغرب يعودون الطفل منذ الصغر على ممارسة الثقافة وليس على حفظ وبصم قواعد ومفاهيم وعناوين لها على بالثقافة دون إدراك كيفية ممارستها، وهذا ما يعود بنا إلى الأمية الثقافية التي سألتم عنها.
نعيش هذه الأيام في زمن جائحة كورونا، التي تنتشر على المستوى العالميّ، ترى.. أتغير هذه الجائحة من طبيعة العلاقات الاجتماعية، المتسمة بالكراهية والقسوة التي استمدت من قيم الاستهلاك والفساد بين أفراد المجتمع؛ بعد أن تتجاوز البشرية هذه الجائحة؟ أمن الممكن أن تصوّب الإنسانية مسار العولمة المرتبط بأمركة شعوب الأرض، وتقويم سياسات القهر والفساد، والاتجاه نحو سياسات أكثر عدلًا ومساواة؟
حقيقة هذا الوباء المترافق مع ثورة المعلومات والاتصالات، قد يكون هو المدخل أو الدافع لتغيير النظام العالمي فعلاً بما عهدناه بعد الثورة الصناعية لنبدأ ترسيخ عصر آخر هو عصر المعلوماتية بكل ما تعنيه الكلمة، ذلك يعني تحول العلاقات الإنسانية والقوانين والعادات إلى نماذج تتناسب مع توجهات العصر، وهذا له اتجاهين، الأول ربما إيجابي أي أننا ربما نتجه لتأسيس علاقات جيدة تفيد الإنسانية وتنهي أنظمة الاستقطاب الأحادي في السياسة والقوة المهيمنة وفي نمط القرار الدولي ككل، وصولاً إلى العلاقات والعادات الداخلية في الدول والمناطق، وهذا يستند بالأساس على تبدل النظام المالي الذي سيبدل معه أدوات الإنتاج المعهودة كالإنسان والأرض والآلة وغيرها، وهو فرصة لسن قوانين جديدة تحكم تعاملات وعلاقات الناس وتكون أكثر مرونة وعدلاً، لكن في الوقت نفسه هناك خشية من تبدل العلاقات المرتبطة بالأسرة والعمل والسوق والإنتاج مع تبدل تلك الأدوات إلى منظومة إلكترونية وتفكير رقمي مرتبط بشكل وثيق بتكنولوجيا المعلومات، حيث يصبح الشخص معزولاً ومرتبطاً مع العالم الخارجي عبر تلك الشاشة والنظم الإلكترونية الموجودة فيها، ففي الغرب بدأت الكثير من الأعمال تتحول إلى أداء ومشاركات ومهام عن بعد، وتوسع قطاع الخدمات الإلكترونية وطرق الدفع والاستثمار وتبادل الأموال، ووصل إلى طريقة افتتاح المعارض بكل أنواعها وكذلك المتاحف والمكتبات العامة وغير ذلك الكثير، وكأن الأسلوب الجديد يأخذ أبعاد أكثر ضيقاً على الإنسان والأسرة المصغرة لتكون هي الدائرة التفاعلية الأساس وهذا يعني أن الاختلاط الذي يؤدي لتبادل الأفكار والعلاقات العامة وحتى العلاقات الحميمية يتجه إلى البرود، وعليه قد نكون أمام عصر تؤثر فيه علاقتنا الطويلة مع الشاشة والمعلومة اليسيرة والخدمة السريعة من خلالها للاستغناء عن علاقاتنا الإنسانية وهذا يقلل من فرص تفاعل الناس مع بعضها ويصبح تعاطفها أشبه بوضع علامة لايك على منشور، وعلى الرغم من المظاهرات الأخيرة لتفاعل بعض الفئات حول ما جرى بأمريكا مع المواطن الأسود الذي قتل على يد الشرطة، فالمؤشر ما زال غير واضح المعالم حول كيف ستسير البشرية، فجريمة الحرب في سوريا على سبيل المثال والتي جاءت قبل الفيروس قد صنفتها الأمم المتحدة بشكل رسمي بأنها أكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية ومن أخطر جرائم الحروب، إلا أن التفاعل الأممي أعطانا مؤشر خطير على اتجاه البشرية نحو التعود على الجريمة وعدم الاكتراث وجعل تفاعل الناس مع بعضها أقصاها حملة على وسائل التواصل أو التوقيع على بيان، وسرد تنديدات لتساهم بتعويد الناس على الانعزال وعدم التفاعل. لذلك أميل على أن القهر والفساد سيزداد ولن يتراجع على الأقل بالمدى المنظور كون القوانين مازالت تخدم الأقوى.
الاستشراف فعل يستبق معرفة مغيّبة في المستقبل، ويحدث نتيجة الإمعان بأحداث ومعطيات سابقة وحاضرة، ويتعلق مفهوم الاستشراف بالزمن النفسي، لأنّه حاضر في عملية التفكير عن طريقين: معرفة الشخصية لذاتها حاضرًا وماضيًّا أولا، وثانيا: استشرافها المستقبل؛ إذ يتعلق الزمن النفسي بالتوقع والانتظار والأمل والرجاء والتذكر والحنين…، تُرى ما الذي يخبرنا به أ. حافظ قرقوط عن الرؤى الاستشرافية للفكر السياسي العربي، وللنصوص السردية والإبداعية التي تختص بالصغار والكبار على حد سواء؟ هل هناك نصوص استشرافية على شاكلة 1984 لأورويل، أو ملحمة السراب لسعد الله ونوس؟
ما حدث في الشرق الأوسط برمته ومنها سوريا بالتأكيد سيكون أثره متشعب ومديد، وسنلاحظه بشكل جلي في السرديات ومن التعمق بها سنرى تنوع كبير وكم ليس بقليل من الأفكار والأساليب التعبيرية، وربما تكون بمستويات من التوصيف والتشويق والكشف مفاجئة للقارئ والناقد، وهناك مؤشرات هامة على ذلك ولقد ذكرت في الأعلى على ما سمي للأسف بأدب السجون وهذا عنوان بحد ذاته يدل على العار الذي عشناه في عقود مليئة بالخوف من السلطة وتغولها، ولهذا أنا أؤيد الفكرة التي تقول إننا أمام ثورة فكرية لها علاقة بكافة أصناف الأدب والنصوص الإبداعية عندما يستقر الواقع إيجابياً، فقساوة الصورة ووجود وسائل التواصل التي ساعدت في نشر المعلومة بكل جوانبها، الجميلة والبشعة، مع القهر النفسي والمادي المحيط بنا والمتراكم بداخل نفوسنا مع هذا الواقع الذي يتزحزح عن صدورنا ببطء بفعل عوامل النهوض للأجيال الجديدة ورفض ما كان سائد من قوانين وقهر، هذا له كله أثره في بلورة المزيد من التجارب الإبداعية لأدباء عاشوا المرحلتين السابقة والحالية وآخرين وهم من الجيل الجديد يعيشون المرحلة الحالية وأمامهم المستقبل أو المرحلة اللاحقة، وسنرى كتابات توثيقية بطريقة سردية وأخرى استشراقية بأسلوب إبداعي مرتكز على جملة جديدة ومعان أو أوصاف ستشكل بحد ذاتها قوالب جديدة وسنرى النقاد أيضاً يبتكرون أنماطاً مختلفة للتعريف بها وتحديد أركانها ومنحاها وأثرها.