صورة سردية
كوبري راغب ..
====
واحد من كباري عديدة، مقامة على ترعة المحمودية، التي كانت في زمن مضى من أهم الممرات الملاحية في مصر، إضافة إلى أهميتها كمصدر لمياه الشرب.
ويتوسط هذا الكوبري المسافة بين كوبريين آخرين، كوبري محرم بك وكوبري كرموز. ويربط حي (غيط العنب) بوسط المدينة، عن طريق شارع راغب باشا.
وقد أنشأ الإنجليز سلسلة من الكباري على نهر النيل وبعض تفرعاته، لهدف أساسي هو خدمة المجهود الحربي إبان الحرب العالمية الثانية. واستمرت تلك الكباري تخدم حركة النقل والتجارة في مصر، حتى الآن.
والكوبري قطعة هندسية بديعة. هيكله من الصلب، وجسمه مغطى بالأسفلت، في حالة توافق تام مع الطرفين اللذين يتصل بهما، لتمر عليه المركبات المختلفة، بما فيها الترام. وله ممران جانبيان للمشاة.
وكان يُفتح للمراكب الشراعية مرتين في اليوم، فتتوقف حركة المرور فوقه، ويلجأ الناس إلى (معديتين) للانتقال من (بر) لبر. وكان أجر المعدية نصف قرش للفرد.
أما كيف كان يُفتح الكوبري، فإنها هي القصة …
كان المشرف على الكوبري شخص غريب المظهر. أسود، حتى أننا كنا نسميه (العبد). وكان يرتدي بذلة صوفية رسمية شتاءً وصيفاً، لا تتغير. لكنه كان لا يمانع أن يتسابق الصبية ليركبوا الكوبري قبيل موعد فتحه للملاحة، ليشاركوا في إدارة أداة الفتح، وكانت عبارة عن عمود حديدي يزيد طوله عن المتر قليلاً، متصل بساق خشبية قوية، ترتكز في منتصفها على العمود الحديدي. وتبدأ عملية فتح الكوبري بإغلاق بوابتيه الخشبيتين الكبيرتين، ويبدأ الصبية في دفع الساق الخشبية في اتجاه عقارب الساعة، ويتغير الاتجاه عند إقفال الكوبري، أو فتحه لمرور المشاة والمركبات.
وكنتُ شغوفاً بالمشاركة في هذه العملية، فأتجه إلى الكوبري في موعد الفتح، بعد الظهيرة، ويكون ذلك متزامناً مع موعد خروجي من المدرسة، القريبة من الكوبري. وتغمرني سعادة بالغة وأنا ألف مع صبية آخرين، لا أعرفهم، نعمل باجتهاد شديد، حتى يصبح جسم الكوبري موازياً للشاطئين تماماً، وأقرب إلى أحدهما، بحيث يترك مساحة كافية لمرور المراكب النيلية الشراعية المتجهة من وإلى ميناء الإسكندرية، والمحملة ببضائع مختلفة.
من هذا الموقع مرت قاطرات عملاقة تجر ناقلات عليها (توربينات) السد العالي .. جاءت من الاتحاد السوفييتي بالبحر، ثم سافرت عبر ترعة المحمودية، إلى فرع رشيد، جنوباً إلى أسوان.
ورأيت أنا مرورها، وسجلته في قصة للأطفال.
غير أن شغفي بإغلاق وفتح الكوبري كان يسبب لي مشكلة دائمة مع أمي، رحمها الله. وكانت تهددني كل مرة بأن تنقل لأبي قصتي مع الكوبري.
وكان الوقت الذي أضطر لقضائه فوق جسم الكوبري المفتوح للملاحة طويلاً .. نحو ساعتين. كنا نقضي بعضها في مراقبة المراكب المارة، والبحارة البسطاء وهم يجرونها من على الشاطئ باستخدام الحبال. وكان البحارة يلقون إلينا أحياناً ببعض مما تحمله المراكب من فاكهة أو خضروات.
الآن، فقد كوبري راغب الحياة!.
إنه مشلول .. لا يتحرك فيقفل ويفتح .. أصبح مقفلاً في وجه الملاحة طول الوقت. صار قطعة صلب ترتفع فوق شق تجري به مياه آسنة، وتحيط به أكوام من المخلفات.
غير أنني، كلما زرت غيط العنب، أحرص على المرور فوق الكوبري، وأتفحص مكان وضع العمود الحديدي، واتمشى في ممره الجانبي، بالرغم من الروائح غير الطيبة المتصاعدة من مياه الترعة الملوثة.