قصة قصيرة

قصة قصيرة من مجموعة “خيول النهر”

قصة قصيرة من مجموعة “خيول النهر”

جميـــــــــــــــــــــــلة
بقلم محمد عبد الله الهادي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استهلال
ـــــــــــــــ
قالت امرأة دميمة أمام قادوس ماكينة طحين الجزيرة، عندما رأت الطحان الشاب يؤثر فتاة حلوة عليها في الدور:
“مصاحبة الرجال كنوز يا جُمعة ومصاحبة النساء خباثة”
سمعها الطحان فتخابث فعلاً وهو يسألها:
“وهو أنت راجل يا خالة؟”
ردت عليه تشتمه:
” خلل في ركبك يا بعيد”..
مسعود العقيلي، من عرب العقايلة، قبيلة تمتد أصولها البعيدة لجزيرة العرب، كان متابعاً للحوار، ضحك معلقاً:
“ويلكم ويلكم يا فلاحين.. المرأة عندنا ماعون”
فعلا لديه ثلاثة مواعين يملأها عندما تستبد به الرغبة، وداره الطينية بالعش الذي أمامها لا تستوعب كل بذور صلبه من مواعينه بتعدد دورات الحمل والولادة.
* * *
حكاية قديمة
ـــــــــــــــــــ
رفاعي فلاح مستور، يملك نصف فدان من الأرض ملاصق للجزيرة، أرض جيدة وعفيّة لا تخضع للدورة الزراعية للجمعية التعاونية، فيزرعها خضرًا طوال العام يبيعها بنفسه في الأسواق، له ابنة في مثل عمري اسمها فريدة، هي أجمل بنات الجزيرة، لم يلحقها بالمدرسة، البنات اللائي التحقن بالمدرسة قلائل، معظمهن من أسر مرتاحة، لكنه أيضا لا يهينها بالعمل في غيطه كباقي البنات الفلاحات، يتركها مع أمها معززة مكرمة تساعدها في شغل البيت، كانت أمها علي الجانب الآخر ترسلها كل يوم عدة ساعات عند ثومة الخياطة لتتعلم الصنعة منها، ووعدتها إن تعلمت بحق فنون التفصيل والخياطة أن تجعل أباها رفاعي يشتري لها ماكينة خياطة جديدة..
كان واضحًا أن الأبوين يعدان فريدة الجميلة لزيجة محترمة تعفيها من شغل الفلاحة في الغيطان.
كنت أحب فريدة حبًا عظيمًا، حبًا أحار في وصفه، لم يكن رغبة أو اشتهاءً بقدر ما كان إيثارًا واحترامًا لهذا الجمال الفطري الذي وهبه الله للبنت الفقيرة، أو ربما الجمال الموروث من جدتها القديمة نفرتيتي التي عشقت صورتها بكتاب التاريخ، فقيرة هي، لكنني كنت أتحين الفرص لرؤيتها، وأراها في كل مرة بثوبها الريفي النظيف أجمل الجميلات، فتزداد حلاوة في عيني وتتمكن من عقلي الصغير، أتلكأ أمام دار ثومة الخياطة وهي هناك، أو أتعمد المرور قدام دارهم وأعطل نفسي بأي سبب، شوكة شكت إصبعي أو حجر أصاب رجلي، المهم أن أراها، وأن تلتقي عيناي بعينيها، وأن تعرف أنني إنما جئت من أجلها لكي أراها.
ما إن أخرج من المدرسة، وأنهي واجباتي المدرسية، حتى أسرع إلي صديقي إبراهيم لألعب معه، وهو أيضًا فلاح فقير لا يذهب للمدرسة، لكن أباه يكلفه بإعمال تناسب سنه، يجعله يسرح بالجاموسة للغيط، أو يرعى بها الحشائش علي شط الترعة أو يعود بالبرسيم للدار، وأنا ألعب معه وأرافقه وهو يؤدي هذه الأعمال، بل أساعده أحيانا في أعمال أفتقدها، فأبي موظف حكومة وليس لدينا أرض ولا جاموسة ولا برسيم، وبدأت ألاحظ أنه أيضًا يهتم بفريدة، وربما يحبها مثلي، ما إن يراها قادمة لملأ جرتها الصغيرة من الترعة حتى يترك اللعب معي ويسبقني مهرولاً لمساعدتها، فاندفع خلفه بغيظ، وهي تشيح بوجهها عنه بعد أن تملأ جرتها، تبتسم لي وهي تلف “الحواية” علي رأسها وتقول لي بصوت عذب:
“إيدك يا عبد الله”
فاندفع بحماس قابضًا علي أذن الجرة الثقيلة بكف وعلي بطنها بالكف الأخرى رافعاً إياها علي رأسها، ومشفقاً عليها في آن وأنا أقول:
“هيلا هوب”
ترد مبتسمة وهي تسند الجرة بكف، وتمسح رذاذ الماء الذي تطاير علي وجهها بكفها الأخرى”
” شكرًَا”
ثم تمضي تتمايل كغزالة.
يحتقن وجه صديقي، يغضب ويغير مني، يخاصمني ولا يلعب معي، ينظر لي بعينين لوّامتين كأنه يقول:
هي فلاحة وأنا فلاح.. مالك أنت؟.. ابعد عن طريقها يا ابن المدارس.. عندك البنات في المدرسة.
بنات مدرستي الابتدائية لم يكن جميلات كفريدة، وصف البنات العشر في فصلي لا تلفت واحدة منهن انتباه أي ولد من الأولاد العشرين في الصفين الآخرين، كما إنهن بصفة عامة خائبات رغم أنهن ينتمين لأسر غنية أثرت تعليم بناتها من باب الوجاهة، والشاطرة الوحيدة منهن كانت تنافسني علي المركز الأول الذي احتله دائمًا، تغير مني وتحسدني علي شطارتي.
الغريب أنهن لم يكن يكلمن فريدة عندما يرينها، بل يحتقرنها لفقرها وجهلها، بل ويتعالين عليها من منظور طبقي، ويحسدن عليها جمالها المتبرعم الفاتن. وفريدة من جانب آخر لم تكن تهتم بهن أو بتعاليهن عليها، كانت في وجودهن ترفع رأسها لأعلى كرأس نفرتيتي ويبين نحرها الأبيض الجميل، ذلك أنها تعتقد بيقين أن جمال البنت هو الأهم، وما عدا ذلك لا قيمة له، وهي في النهاية مؤدبة وبنت ناس مستورين.
لكنها أيضا لم تكن تكلم صديقي إبراهيم الفلاح، وربما تحتقره أو تتعالى عليه باعتقاد أن جمالها فائق الفتنة يؤهلها مستقبلا لزيجة أفضل، ولهذا كانت تكلمني أنا ابن المدارس وتؤثرني عليه..
قبل أن أرفع جرتها في مرّة تشجعت وقلت لها:
“أنت شبه نفرتيتي”
سألت بفضول:
” من نفرتيتي دي؟”
قلت لها:
“دي ملكة مصرية قديمة اسمها جميلة الجميلات.. كانت بتحكم مصر”
احمرت وجنتاها بخجل ودهشة، وفاض وجهها الجميل بتألق منير، وتمتمت من بين شفتيها:
” جميلة الجميلات”.. ثم ضحكت وقالت بكبرياء ودلع أنثوي:
“ولا كل ملكات الدنيا شبهي.. أنا الأجمل لأني شبه نفسي”
كان إبراهيم وسط حوض البرسيم يتميز غيظًا، وقد سيطرت الغيرة علي عقله وهو يرانا معًا..
امتطى الجنون رأسه في لحظة أضمر فيها الانتقام مني، ملقيًا بصداقتنا في شق الترعة.
قال لي بشراسة عاشقين لدودين يتنافسان على أنثى، ونحن نلعب أمام دارنا في المساء:
“ح أقول لأمك إنك ب تحب فريدة”
كانت عيناه حادتين، يشع منهما تصميم علي إفشاء سرّي، هددته محذرًا:
“إياك تقول.. مش ح أسيبك لو قلت لها”
“ح تعمل إيه يعني؟”
“أقتلك”
وأسقط في يدي، وانتابني خوف شديد، لم يكن خوفي من عقاب أبويّ قدر خوفي من معرفتهم في البيت أني أحب.. أني أعشق، لقد بدا الأمر لي بمثابة فضيحة كبيرة تحمر لها أذني، كيف أقف أنا التلميذ المفعوص مقصوف الرقبة أمام أبي وأمي وأخوتي متهمًا بجريمة حُب؟ّّّّ!.. أي حُب هذا؟ سيسألون باستنكار عني.. أنا العيل صغير الشأن في نظرهم!.
كنت حريصًا، أنا الذي لا رحت ولا جئت في دنيتي الصغيرة، أن يظل هذا الحب الصبياني في طي الكتمان.
كانت أمي قادمة من بيت أختي الكبيرة فاطمة في المساء، فجرى نحوها إبراهيم بتصميم وعمى الغيرة، وجريت أنا أختبئ من الفضيحة خلف السور الواطئ للجرن، سمعته يكلمها عنّي بسرعة ولهوجة، فأبهم عليها مقصده، طلبت منه أن يهدأ ويوضح لها، فأعاد عليها الكلام:
” أنا بقول لك يا خالة ابنك عبد الله ب يحب فريدة..”
فسألته بدهشة:
“فريدة!.. فريدة مين يا بني؟”
“بنت رفاعي يا خالة.. كل يوم يروح يكلمها عند الترعة ويقف معها بالساعات.. وأنا قلت له عيب يا عبد الله شف دروسك.. ما سمعش كلامي”
كانت أمي صامتة للحظة تستمع له:
“قلت له ح أقول لأمك يا عبد الله.. قال لي ح أقتلك لو قلتلها”
وقفت أمي للحظة في عتمة المساء تستوعب المسألة، وإبراهيم جرى لدارهم بعد أن لخص وقائع الجريمة التي اقترفتها في كلمات قليلة، وأتبعها بنصيحته التي لم أستمع لها أو أ عمل لها حسابًا، وأنا توقعت الهول، زاد كربي في مخبئي وانتابتني الهواجس السوداء، وغمر العرق الغزير بدني، تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني، وأقسمت بيني وبين نفسي أنني عندما أنفرد بإبراهيم سأضربه علقة ساخنة وأبطح رأسه بالحجر حتى يسيل دمه.
الغيور الجبان فتن لأمي ثم فر هاربا لدارهم يحتمي بها مني.
عادت أمي أدراجها لبيت أختي مرة ثانية، فوجئت برد فعلها هذا فساورتني الظنون، تحررت قليلا في موضعي ورفعت رأسي فوق السور عاجزا عن التفكير، وما لبثت أمي بعد دقائق أن عادت ومعها أختي فامتلأ صدري بالخوف، سيجتمع شمل العائلة كلها عليََّّ الآن، وواريت رأسي، وازدادت دقات قلبي سرعة، لكني سمعتها في العتمة تضحك.. يا الله أمي تضحك ولا تولول، وأختي أيضا تبادلها الكلام والضحك، واسمي يتقافز علي لسانيهما بلا ضغينة، اطمأننت قليلا، تشجعت وخرجت من مخبئي وراء السور، وجريت احتمي بأختي التي تحبني، وأفتش لي عن مخبأ وراء ثوبها الطويل، لكن أمي كانت تضحك وتقول:
” أخوكي ب يحب يا فاطمة.. يا دي الهنا.. عبد الله كبر وبقى راجل”
وأخذتني في حضنها وغمرت وجهي بالقبلات، وذرفت عيناها دموعًا فرحة تساقطت قطراتها علي وجهي الخجلان، فسقطت كل مخاوفي في جب عميق، وعادت الطمأنينة لصدري، ولولا تأخر الليل ـ خمنت ـ لطافت بي أمي علي كل الجيران، تدق أبوابهم بما فيهم أسرة إبراهيم الفتّان، تخبرهم بفخر أنني صرت رجلا.. “ابني ب يحب ويعشق يا ناس.. ويحب مين؟ ب يحب فريدة بنت رفاعي أجمل بنات الجزيرة..”
كان ينقصها أن تملأ ليل الجزيرة بقمره الخجول بالزغاريد، وأن توزع شراب الورد الأحمر علي كل الأحباب، وأنا كنت ميتًا في جلدي من شدة الكسوف، متمنيًا أن تنتهي هذه الزفة الصغيرة بسرعة.
عندما جلسنا علي الحصيرة أمام الدار، وتجمع كل أفراد الأسرة حولنا، راودتني فكرة الفرار والاختباء في القاعة الجوانية، وعادت أمي لطبيعتها الهادئة، كلمتني كلام العقل وهي تربت كتفيّ بكفها، ونصحتني بأمومة حنونة:
“ذاكر يا حبيبي وتشطر .. خد بالك من مدرستك ودروسك.. خليك راجل وخد الشهادة العالية.. وأنا أجوزك فريدة .. أو أجوزك بنت أجمل منها ميت مرة .. وأعمل لك فرح محصلش قبل كدا في الجزيرة”
* * *
في الأيام التالية نسيت أمر الانتقام من إبراهيم، وأنا جالس علي شاطئ الترعة اقترب مني بتردد، بعد أن أدرك خطأه، مد أصابع كفه فمددتُ أصابعي بتسامح، وتلامست أصابع الكفين الصغيرين، قبّل أصابعه بشفتيه وقال “صُلح” فقبلت أصابعي مثله وقلت “صُلح”، وعدنا للعب سويًا.
امتلأت بالثقة، حرصت رغم صغر سنّي أن أعمل بنصيحة أمي فأكبر في عينها وفي عين فريدة جميلة الجميلات، صرت أسلك سلوك الرجال، عندما أمر علي رجل أرفع كفي بجوار رأسي وأقول: سلام عليكم، وإذا مررت بأنثى أقول: العواف، وأحرص علي ضبط أفعالي وانفعالاتي مع أصدقائي، فلا انجرف لأمور المعيلة ولا يفلت لساني بكلمة عيب، وكنت حريصًا علي الصلاة في أوقاتها بالمصلى..
لكنني رغم كل ذلك، كنت أحيانا أغيظ إبراهيم بسلوك صبياني وأقول له :
” أنا رايح أقابل فريدة”
* * *
ليست خاتمة
ـــــــــــــــــــــ
مرت سنوات ليست قليلة.
اجتزت المرحلة الثانوية بتفوق وتهيأت لدخول الجامعة.
وباعدت الأيام بيني وبينها وبين إبراهيم.
كانت فريدة قد اجتازت تعلم الخياطة، ودخلت الحياة العملية من أوسع أبوابها، ونالت شهرة واسعة في الجزيرة والعزب التابعة لها، صارت أقوى منافسة لثومة التي علمتها، وكانت قد تزوجت بفلاح فقير لم يكن إبراهيم بالقطع، وأنجبت طفلة تشبهها لحد التطابق أسمتها جميلة.. كانت تلاعبها، وتدغدغ خصرها، وعندما ينير وجه الصغيرة بالضحك، تقذفها لأعلى في الهواء ثم تلقفها بين كفيها عدة مرات وهي تغني لها، وعندما يتلعثم لسانها في اسم نفرتيتي، تكتفي بترديد:
“يا جميلة الجميلات.. يا جميلة الجميلات “.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه:

تم كشف مانع الإعلانات

رجاء تعطيل مانع الإعلانات لكي تدعم موقعنا شكرا