كُتاب

قاسم وهب – الموسوعي الذي ظل بعيداً عن الأضواء

بقلم فوزات رزق

قاسم وهب الموسوعي الذي ظل بعيداً عن الأضواء

 إذا كان لكل رجل صفة عُرف بها لتكون عنواناً له في تعامله مع الآخر، وسمة من سماته، وصوى في طريقه؛ فإن الصفات التي كان يمتاز بها قاسم وهب هي الكبرياء دون صلف، وعزة النفس دون عنجهية، والترفع عن الصغائر. لكأنه كان يردد في كل خطوة من مسيرة حياته دعاء الفيلسوف الهندي طاغور: “اللهمّ إذا أعطيتني نجاحاً فلا تأخذ تواضعي- وإذا أعطيتني تواضعاً فلا تأخذ اعتزازي بكرامتي”.

كان قاسم صاحب مروءة، لكأن طه حسين كان يقصده حين وصف الأحنف بن قيس بقوله” “والله لو عرف أن الماء ينقص من مروءته ما شربه”

لم يكن قاسم زمّيتاً، فهو أنسان، إذا غضب يغضب للحق، وإذا فرح يستخفه الطرب على صورة ضحكة مجلجلة ترتقص معها أطرافه الأربعة. تضحكه الطرفة، وتبكيه الفاجعة، وتطربه الكلمة، وهذه لعمري صفات لو افتقدها المرء لكان عليه أن يعيد النظر بإنسانيته.

  كان لقاسم جَلَد عمال المناجم، ودأب أسراب النمل، وشغف النحل في جمع الرحيق. ينتقي أجمل الزهور منظراً، وأعطرها رائحة، وأزكاها رحيقاً، ليصنع منها عسلاً بلديا صافيا.

 


  ابتلي قاسم بداء حب التراث، فحقق العديد من كتب التراث ضمن منشورات وزارة الثقافة السورية. كما لاحق رحلات الجغرافيين وتتبع خطواتهم.

ويصح أن نطلق عليه صفة الموسوعي بكل ثقة. وطالماً عدنا إليه في بعض المسائل الخلافية فكان لديه الأجوبة الشافية. والاجتهادات الصائبة. وإن نسيت لا أنسى يوماَ كان يحدثني فيه عن مشاريعه في رصد مفاعيل بيئة جبل العرب الغنية، معتبراً أن هذه المهمة رهن بالشرفاء. وسقطت من عينيه دمعتان حينما قال: أخاف أن يدركنا القدر قبل أن ننجز هذه المهمة النبيلة. وقد كان عند وعده، فقد أنجز قبل رحيله “معجم الألفاظ والتعابير في محكية جبل العرب” و “حصاد الأيام في المتداول من أقوال العوام” و “حكاية الأمس، صورة ومشاهد من حياة الناس” والكتابان الأخيران صدرا ضمن موسوعة الجبل التي يمولها السيد زياد صيموعة، ويشرف على أنجازها الصحفي منهال الشوفي. وثمة عملان ما يزالان مخطوطين ينتظران الخروج إلى النور هما: “المتداول من الكنايات العامية في الجنوب السوري”        و”التعريف بمن ذهب من الأعلام في جبل العرب”

  وكان قاسم شغوفاً بالقراءة إلى حد الهوس. وشغوفاً بالبحث إلى درجة تجاوز حاجاته الشخصية في سبيل إنجاز ما عزم عليه من بحث وتحقيق وتأليف. لم يكن يكتفي بالمعلومة على علاتها، بل كان يناقشها ويعمل العقل فيها، حتى إذا ارتضاها قاضي الداخل أثبتها.

  وكان قاسم صريحاً في النقد، لا يهاب لومة لائم. كما أنه واسع الصدر حين يتعرض للنقد في بعض أعماله. وهذه لعمري صفة الأدباء المنصفين لأنفسهم وللآخرين. أذكر مرة أنه استشارني في مخطوط “التعريف بمن ذهب من الأعلام” الآنف الذكر، وكان قد عكف على تأليفه، يتحدث فيه عن بعض الشخصيات في الجبل ممن تركوا آثاراً هامة في مسيرتهم الاجتماعية والوطنية، معتمداً في ذلك على ما دُوِّن من مسيرة هؤلاء في مصادر مكتوبة. وأرسل لي المخطوط يطلب رأيي. فوجدت أنه قد تجاوز الكثير من الأسماء التي تركت بصماتها في تاريخ الجبل دون أن تنصفها الكتب، لأن التاريخ لا يستوعب حصر كل من ساهم في مسيرته. وضربت له أمثلة لأشخاص لا يقلون شأناً وأهمية عمن ذكرهم، لكن أحداً لم يذكرهم في أية مدونة تاريخية. وبالتالي فإن إهمال بعض الشخصيات سيفتح عليه باباً من النقد لتجاوزه هؤلاء المنسيين. فاقتنع معي دون أن يتعصب لمخطوطه الذي تعب عليه. ولم أتمكن من الاطلاع على المخطوط بعد تعديله.

  عايشت معجمه الهام الذي رصد فيه محكية الجبل فصلاً …فصلاً. وقد بذل فيه جهداً وجَلَداً يحسد عليه، ورجع في ذلك إلى العديد من المعاجم والمصادر التي تعرضت للهجات المحكية أو اللغات التي غرفت منها محكية الجبل مثل الآرامية والسريانية، وكيف تأثرت بالموجات الاستعمارية المتعاقبة على الجبل فدخلت ألفاظ تركية وفرنسية في محكيتنا، والأهم من ذلك صلة محكيتنا بمحكية جبل لبنان من خلال المنبت اللبناني لأكثر عائلات الجبل. وأدخل في معجمه الكثير من الأمثال وحكاياتها. ولم يتخلَّ عن أمانته في النقل، وذكر المصادر التي استقى منها روايته.

وطالما تحاورنا في كيفية استخدام بعض الألفاظ والمصطلحات المحلية، ولأنه كان مشبعاً بالأدب الجم؛ فقد تجاوز بعض الألفاظ الجنسية من مسميات وأفعال، معتبراً ذلك خادشاً للحياء.

  أما في مجال النقد الأدبي فقد كان موقفه واضحاً، ينتقد دون مجاملة، وأشد ما كان يتحلّى به في هذا المجال امتعاضه من الابتذال والإسفاف ـ على حد توصيفه ـ في بعض الأعمال الروائية التي تناولت المواقف الجنسية الصريحة، أو التي عكست صوراً مشوهة عن بيئة الجبل باعتبارها الفضاء المكاني للرواية. وربما كان قاسياً في حكمه بعض الأحيان.

  وإذا تجاوزنا جهوده في تحقيق العديد من المخطوطات التراثية التي صدرت عن وزارة الثقافة السورية، ومجهوده في تحقيق مخطوطات الرحلات؛ فإن قاسم وهب كان شاعراً مجيداً، مرهف الحس. لكنه انشغل عن الشعر بالمجالات التي ذكرتها من تحقيق وتأليف. ومن يقرأ بعض ما ترك من شعر يدرك كم كان قاسم رهيفاً وذا شاعرية خلاقة. وفيما يبدو فإن هؤلاء الموسوعيين أمثال قاسم وهب، لديهم طاقات هائلة تحتاج إلى بيئة حاضنة، دون انصرافهم إلى هموم الحياة اليومية ومتاعبها التي لا تحدّ، ومن بعض ما كتب قاسم وهب ـ على سبيل المثال لا الحصرـ هذه المقطوعة التي يصور فيها جهد الفلاحين ـ وهو المثقف الموسوعي ـ الذي لم ينقطع عن بيئته ومنبته الطبقي:

 

المغنِّي

المغنِّي قابعٌ في الظلِّ تستهويهِ أنقاضُ الطيوفْ

فيغنِّي

وجعَ الحرفِ وأسرارَ الذبولْ

وعنادَ الماردِ المنفيِّ في الأكواخِ

يستجدي عقابيلَ الفصولْ

يبذرُ الحبَّ

يسوّي الأرضَ

يسقيها إذا ضنّتْ سماءٌ بالمطرْ

ويشدُّ العَصَبَ المقرورَ بالنارِ

وحيناً بالإبرْ

المغنِّي

صاعدُ في سلّمِ التاريخِ

عرّافٌ يطوفْ

يربطُ النائي بخيطِ النورِ

يسقيهِ من الماءِ الذي يمنحُهُ الصحوُ

وينسيهِ عماراتِ الكهوفْ

المغنِّي

ضائعٌ كالعطرِ في سحرٍ يفوحْ

همّهُ أن يوقظَ الوسنانَ من أحلامِهِ السكرى

ويدنيهِ من النبعِ الجموحْ

المغنِّي

 

  كان قاسم في منشئه فلاحاً ابن فلّاح. وكان ابن بيئته يعتز بموروثها دون تعصب. فيضيء على ما هو هام ومشرق. وينتقد ما هو مغرق في الجهالة. وفي كتابه “حكاية الأمس” رصد حياة قريته “عنز” مسقط رأسه باعتبارها واحدة من أمات القرى التي تمثل الحياة العامة في الجبل من حيث طريقة المعيشة، والأعمال الزراعية والحِرَف المرتبطة بحياة الفلاحين، وغير ذلك مما تزخر به الحياة الشعبية في الجبل.

  كان قاسم وهب وطنياً بامتياز. لم تجرفه السياسة باتجاه التعصب لحزب ما، فقد كان انتماؤه للوطن، يعيش آلامه وأحزانه. وقد آلمه ما آلت إليه الأمور في أيامه الأخيرة حد البكاء. كان عدواً للفساد، عدواً للاستبداد، عدواً لاحتكار السلطة، عدواً للاستزلام والانقياد الأعمى خلف الشعارات البراقة الجوفاء. وقد دفع ثمن موقفه الوطني الرافض لكل أشكال العسف، فقد أبعد عن التدريس بقرار أمني لبعض الوقت.

  كانت جلساتنا لا تخلو من المرح. لكنها كانت تصطبغ غالباً بالهمّ العام. ويبقى قاسم هادئاً مرحاً أريحياً حتى يتجه الحديث نحو الظلم والعسف والممارسات اللاأخلاقية في السياسة والحياة، عندئذٍ يغادر هدوءه وأريحيته ويرتفع لديه الأدرينالين، ويتحدث بانفعال مندداَ بالمواقف الرخيصة والمبتذلة في السياسة والمواقف الاجتماعية البعيدة عن الأخلاق، دون أن يذهب به ذلك الانفعال مذهباً شططا يفقده وقاره ورزانته.

مارس قاسم وهب التدريس في ثانويات السويداء، وفي معهد المعلمين، وكلية التربية في السويداء. وما إن يذكر قاسم وهب حتى ترى طلابه ينبرون للإشادة بغزارة معلوماته وأخلاقه التربوية.

 

سيرة الباحث قاسم وهب

ـ ولد في قرية عنز محافظة السويداء عام 1941 وتوفي في 4/ 11/ 2019

ـ حصل على أهلية التعليم الابتدائي 1962. ومارس التعليم الابتدائي لغاية 1966

ـ حصل على إجازة في اللغة العربية عام 1967

ـ مارس التدريس في ثانويات السويداء، ومعهد إعداد المدرسين وكلية التربية في السويداء.

ـ مارس التدريس في ثانويات الإمارات العربية حوالي عشر سنوات.

ـ مارس التدريس في المعاهد الليبية أربع سنوات.

ـ عمل في مشروع ارتياد الآفاق وأدب الرحلة في أبو ظبي. وشارك في معظم ندواته في عواصم عربية عديدة.

ـ قدم أربعة عشر عملاً في أدب الرحلات طبع منها ثمانية أعمال.

ـ نال جائزة ابن بطوطة عن أحد أعماله حول رحلة فخر الدين المعني إلى إيطاليا.

ـ عمل محكماً في مهرجان المزرعة الذي موّله المهندس يحيى القضماني تحت إشراف وزارة الثقافة السورية، وذلك لأكثر من دورة.

 

ببليوغافيا.  قاسم وهب

1ـ زهر الآداب وثمر الألباب. ج 1،2،3. أبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري.. وزارة الثقافة السورية 1996. تحقيق

2ـ التنبيه والإشراف ج 1،2. المسعودي.. وزارة الثقافة السورية 2000. تحقيق

3 ـ من عيون الأنباء في طبقات الأطباء. ج1،2،3.. ابن أبي أصيبعة. وزارة الثقافة السورية 1997. تحقيق

4 ـ النزهة الشهية في الرحلة السليمية. سليم يبسترس. المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2003. تحرير وتقديم.

5ـ رحلة باريس. فرنسيس فتح الله مراش. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 2004. تحرير وتقديم.

6ـ مختارات من كتاب آثار البلاد وأخبار العباد. ج1، 2 القزويني. وزارة الثقافة السورية. 2006اختيار وتحقيق.

7 ـ أخبار من غنوا وغُنِّيَ لهم. ج 1،2.. وزارة الثقافة السورية. 2001. إخراج وتعليق.

8 ـ المسيرة الخلدونية “محطة دمشق. الشارقة. دار الثقافة والإعلام. 2017. تأليف

9ـ حكاية الأمس.. موسوعة الجبل. 2017. تأليف.

10ـ حصاد الأيام.. موسوعة الجبل.2017. تأليف.

11ـ رحلة الغرناطي. تحرير وتقديم. أبو حامد محمد الغرناطي. وزارة الثقافة السورية. 2003. تحرير وتقديم.

12 ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر ج1، 2، 3.. وزارة الثقافة السورية 1988 اختيار وتحقيق.

13ـ معجم الألفاظ والتعابير الشعبية في محافظة السويداء. ج1، 2.. وزارة الثقافة السورية. 2009. تأليف

14ـ رحلة الأمير فخر الدين المعني إلى إيطاليا. المؤسسة العربية للتأليف والنشر. 2006. تحقيق.

15ـ رحلة إلى أوروبا. جرجي زيدان. المؤسسة العربية للتأليف والنشر 2002. تحرير وتقديم.

16ـ الواسطة في معرفة أحوال مالطة. أحمد فارس الشدياق. تحرير وتقديم. المؤسسة العربية للتأليف والنشر. 2004. تحرير وتقديم.

17ـ على خطا المتنبي. تأليف. الهيئة العامة السورية للكتاب. 2013. تأليف

18ـ بين العصرين. الهيئة العامة السورية للكتاب.2021 تأليف

 

 

 

 

 

اقرأ أيضًا: أدباء .. لكن فقراء بقلم سمير المطيعي

 

 


اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه:

تم كشف مانع الإعلانات

رجاء تعطيل مانع الإعلانات لكي تدعم موقعنا شكرا