مقالاتمقالات رأيمقالات فكرية

في طبقاتِ الكتابةِ والكُتّاب هوشنك أوسي

في طبقاتِ الكتابةِ والكُتّاب – هوشنك أوسي
علينا الإقرارُ والاعتراف بوجودِ مشكلةٍ جديدةٍ تلقي بظلالها الثّقيلةِ على المشهد الأدبي، هي؛ التّسرُّع في الكتابة، لدى قطاعات مهمّة من الكُتّاب والكاتبات. أحدّ أبزر أسباب هذا التسرّع؛ اللّحاقُ بمواعيد الجوائز الأدبيّة، أو معارض الكتب.
ومعلومٌ أنّ كتابةَ الرّواية بسرعة، تفقد صاحبها/صاحبتها التّركيز. وفقدان التّركيز يجعل من النّصّ الرّوائي محشوّ بالتّرهّل اللّغوي والتّكرار والتّناقضات، وعدم انسجام تطور أحوال الشّخصيات الرّوائيّة. وعليه، النّفخ (النّقدي) في أيّ كاتب/ة، من دونِ منحهما ملاحظات تفيدهما في مختبر الكتابة، يزيد من حالة التطبّل لديهما. فغزارة المدائح التي يغدقها بعضُ النّقاد على بعض الأدباء، تعمي أبصارهم وبصائرهم، وتعزّز لديهم أوهام العظمة، وتجعلهم يعتبرون أيّ بصيص نقد موجّه إليهم على أنّه غيرة، حسد، حقد، غلّ، كراهية، معاداة للنّجاح، ومواقف مسبقة…الخ، وأنّ مُنتقدي حضرة جناب الأديب/ة، يناصبونهما العداء، وقد وضعوا أمجادهما الأدبيّة نصب أعينهم…، إلى آخر هذه المتوالية من الخزعبلات والنّعوت السّخيفة والتّافهة.
غزارة المدح والإطراء المجّاني المغدوقة على الأدباء، تربّي وتسمّن في الأدب طُغمًا وطغاة. المديح المجّاني المتهافت، كما هو علفَ الطّاغية في السّياسة، سيكون علف الطّاغية في الأدب أيضًا. لذا، ليس غريبًا أبدًا في عالم السّياسة أن نرى طاغية يتحدّث لحشودهِ عن التّواضع والتّسامح والأناقة في السّلوك والتّفكير، كذلك ليس غريبًا رؤية ما يوازي ويعادل ويماثل ذلك الطّاغية في عالم الأدب أيضًا، إلى درجة أن الحشود تتوهّم أن أديبها (الطّاغية) الحنون، بجناحيّ ملاك، لا يفهمهُ إلاّ العباقرة من الإنس والجنّ!
الكتابة بدون تركيز، تسرّع. يمكن أن تستجلب قراءة متسرّعة مدائحيّة، في جلّها إنْ لم يكن كلّها؛ تسبيحُ بحمد النصّ وكاتبه أو كاتبته! والتّسبيح بحمد مناقب النّصوص بشكل متهافت ورخص، لهو “تشبيح”. السّوريون يعرفون معنى التّشبيح!
المقصد مما سلف، ليس تمريغ أنف أنا الكاتب/ة في التّراب والتنكيل بهما، بطريق النّقد. لا قطعًا. ذلك أن المبدع بدونِ أناه، ليس بمبدع. الكاتبُ ليس مطالبًا بإعلان الطّلاق من أناه. ويستحيل فعلُ ذلك. تصنُّع وافتعال التّواضع؛ من خصال الوضاعة. الكاتب مطالب بالالتفاتة إلى نصوصه والعناية بها أكثر، وتوخّي التّركيز والتأنّي أثناء الكتابة، والإصغاء إلى منتقديه، أكثر من إصغائهِ لمادحيه. مَن يمكنه تربية الكاتب على ذلك؟ النّاقد. لأن مدائح النقّاد، دون وجه حقّ، تفويض للطّغاة وترخيص لهم في عالميّ السّياسة والأدب.
القراءةُ الممحّصةُ الفاحصةُ المتأنّيةُ الموضوعيّةُ الحريصةُ على جودة النصّ، في معزل عن بريق ولهيب اسم صاحبه، كفيلةٌ باكتشاف عيوب النصّ وأماكن الخلل والزّلل، وحتّى مواضع الانتحال والسّرقات الأدبيّة فيه.
في تقديري؛ إنّ النّاقد/ة؛ محلل، مؤوّل، مفسّر، مفكّك، وشارح للنّصوص. وإذا تطلّب الأمر، أحيانًا، يصبح النّاقد قاضي تحقيق أدبي أيضًا. مثلما النصّ الإبداعي اختبارٌ للنّاقد، كذلك النصّ النقدي غير الممالئ أو المهادن، هو اختبار للأديب/ة أيضًا.
ولأنّ الكتابةَ صوغٌ، مادّتها الكلام، منظومًا أو منثورًا، وَجبَ التّعاملُ معها بأعلى وأرقى درجات الحذر والحساسيّة، المهارة، الدقّة والإتقان. شأنُ الكُتَّابُ في ذلك شأن صاغةِ الذّهب. إذ لا يكفي التّعاطي مع الكتابة النّفيسة الثّمينة نفس التّعامل مع سبائك الذَّهب المحضة وحسب، بل الحنكة والدّهاء والحرفيّة في عمليّة الصّهر، وإعادة التشكيل والهندسة والتّزيين والزّخرفة والإضافة؛ ماس، أحجار كريمة…الخ إلى المصوغات الذّهبيّة.
أحيانًا، هناك صنفٌ من المصوغات المغشوشة، شديدةِ البريق، الإتقان والتفنن، إلى درجةِ الإبهار والإدهاش، لكنها مزيّفة “فالصو”. وكذا حال بعض الكتابات. طبعًا، الصّنائعي الماهر، سواء في مهنة صائغ الذّهب “الجواهرجي” أم في مهنة الكتابة، ليس عسيرًا عليه معرفة الحقيقي الأصيل من المغشوش، في المصوغات الذهبيّة والكتابيّة (شعر، قصّة، رواية)!
كما في أيّة مهنة، كذا الحال في الكتابة؛ هناك الحرّيف الأصيل، وهناك المزيّف الدّخيل. يمكن للمرءِ الحصول على ساعة، بضاعة صينيّة مزيّفة مقلّدة، لساعة سويسريّة. يحدث ذلك في الكثير من البضائع. وينسحب الأمر على عالم الكتابة الأدبيّة أيضًا. وعليه، هل من الغرابة القول: الكتابةُ والكُتَّابُ طبقات؟ لا أعتقد ذلك.
ــ ثمّة كاتب، حين تقرأ له، تحمدُ الكتابة على نعمة القراءة. يجعلك تحبُّ نفسكَ قارئًا، حتّى لو كنتَ كاتبًا. روعةُ صوغهِ ومستوى بدعه الكتابيّة، تجعلك تشكك في جدوى مواصلتكَ الكتابة، إذا كنتُ كاتبًا. يحرّضك على أن تلزم القراءةَ وتلتزم بها وحسب.
ــ وثمّة مَن تقرأ له، تكرهُ السّاعة التي كُنتَ في قارئًا أو كاتبًا، لكثرة الحشو والثّرثرة، وكميّة الميوعة والزّعم والإدّعاء المتدفّقة مِن كتابتهِ. إذ يمتلك قدرة وطاقة مهولة وحرفية عالية في جرّك نحو الملل، الخواء. كميّة السّخف والبلادة في نصوصه، تشعركَ بمدى عبقريتكَ، حتّى لو كنت كاتبًا متواضعًا. يختبرُ فيك الطاقة والقدرة على التحمّل. شيء يشبه الأعمال الشّاقة التي لستَ مجبرًا على القيام بها.
ــ هناك صنف من الكُتّأب/ات يصيبونك بالشَّلل، لرهافة الدّهشة والصّدمة التي تنضح وتفور بها كتاباتهم. يساهمون في الرّفع من ذائقتك. يجعلونها صعبة، عنيدة، عالية ووعرة، لا تستسيغ الكتابات المتواضعة. يحوّلونك إلى عدّاء مسافات طويلة، من دون تعب. يسمحون لك بالتقاط أنفاسكَ بين الفينة والأخرى. وحين تصل إلى خط النّهاية، تشعرُ أنّك خفيف الوزن، وتمشي ببطءٍ شديد، ومتعب، ومرتاح، وسعيد للغاية.
ــ هناك من الكُتّاب والكاتبات، حين تفرغ من قراءة كتبتهم، تهرع إلى الكتابة. إمّا كي تصبح كاتبًا، يحاول تجاوزهم، أو مقلّدًا لما قرأتهُ لهم. إنّهم سحرةٌ حقيقيون، مَهَرةٌ في صناعة الإبهار.
وهناك من يجعلك تهرع إلى الكتابة للتعبير عن السّخط والشّجب لما تسببت به كتاباتهم لكَ من مضيعة الوقت. وعليه، في الكتابة، نادرًا ما يمكن العثور على ساحر حقيقي، يمكنه إخراج حمامة من تحت قبّعته، أو تحويل منديل إلى باقة ورد، أو إضرام النّار داخل كأسٍ مملوءةٍ ماءً. وكثيرًا ما يمكن العثور على المشعوذ الذي يحاول انتحال صفة ومهنة السّاحر.
ــ الكاتب المشعوذ، يكرهُ الكاتب السّاحر. والأخير، لا يكره الأوّل، ولا يحبّه أيضًا. وأعتقدُ أنّ صائغَ الذّهبِ الماهر الحاذق النّبيه الفطن، إذا تسرّبت إلى قلبهِ الكراهيةُ، فلن تكون إلاّ تجاه مَن يفوقه مهارةً، أمانةً، روعةً وبراعة. ولا يحسدُ منتحلاً إلاّ منتحلاً مثله. ويحدثُ ذلك، بين طبقات الكُتَّاب أيضًا.
خلاصة القول: سمعتها من الكاتب المسرحي والرّوائي المصري السيّد حافظ، بما معناه: “الكُتَّابُ المبدعون قلّة. والكُتَّاب المدّعون والمبتدعون، أكثر من الهمّ على القلب. أمّا الكُتَّاب العباقرة، فهم قلّة القلّة”. هؤلاء، تفيض خزائنهم بالأدب. بينما المُدَّعون، فتفيضُ خزائنهم بقلّة الأدب، بالمعنى الفنّى الجمالي، وليس الاجتماعي والأخلاقي.
نعم، يمكنني اعتبارُ الكتابةَ الأدبيّة من الصّناعات الثقيلة جدًا. ربّما يمكن لأيّ شخص خوض التّجربة، لكن، قلّة قليلة جدًّا يمكنهم الاستمرار حتّى نهاية مشوارهم الكتابي والأدبي.

 


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه:

تم كشف مانع الإعلانات

رجاء تعطيل مانع الإعلانات لكي تدعم موقعنا شكرا