فلسفة القيم (الأكسيولوجيا) Axiology بقلم د. عبد الرحمن طعمة
بقلم
د. عبد الرحمن طعمة
كلية الآداب – جامعة القاهرة
الأكسيولوجيا (فلسفة القيم) هي مبحثٌ رئيسيٌّ من مباحث الفلسفة، فهي تمثل الرافد الثالث لها: مبحث فلسفة الأخلاق، إذ تمثل الأنطولوجيا والإبستمولوجيا الرافدَين الآخرَين. ومصطلح “القيمة” يختلف عن (منظومة القيم) Morals ذات الدلالات الأخلاقية والاجتماعية الأخرى المختلفة. وتهتم فلسفة القيم- أساسًا- بمشكلة الخير والشر، من خلال المقاربات التحليلية المختلفة لقضايا الحق والخير والجمال. ومختلف القيم التي يعرفها الإنسان لا يمكن أنْ توجد بوصفها كياناتٍ منفصلةً، أو كياناتٍ فيزيائيةً يمكن معالجتها تجريبيًّا، بل إنّ هذه القيم تنشأ وتستمر فى مواقف معينة تتشكل من عدة عناصر، وكل عنصر من هذه العناصر لا غِنى عنه، ولكنه لا يُشكل قيمة عند النظر إليه بشكل منفصل، وهذا هو ما يُطلق عليه الموقف الأكسيولوجي.
شغلت قضية القيم وأصولها تفكير الفلاسفة والأدباء على مر العصور، ومن الأمثلة على ذلك أطروحة التساؤل حول الخيرية المطلقة؛ فإذا كان الانسان خَيّرًا بالضرورة فسيفقد حرية الاختيار، ليكون ملاكًا
أو كائنًا خرافيًّا مغايرًا لجنس البشر، الذين خلقهم الله وابتلاهم بالخير والشر على حد سواء، وأيضًا لن يكون قادرًا على إبداع قيم إنسانية يستطيع توريثها وتطويرها ليستمر نوعه. ونضرب هنا مثالا بالرواية الشهيرة (البرتقالة الآلية)([1]) A Clockwork Orange للأديب والمُلحّن الإنجليزي “أنتونى بيرجس” Anthony Burgess (1917-1993م)؛ إذ رأى أنّ الإنسان الذى ليس بوسعه أنْ يكون سيّئًا يُعدّ محرومًا
من الصفات الإنسانية الإيجابية، لأنه فقد حريته في إمكانية الاختيار ومعرفة الخطأ والصواب. وهذا يؤكد- وفقًا للفلاسفة- أنّ القيم ليست في دائرة الضروريات، بل في دائرة الاحتمالات. فإذا كانت القيم هي ما يجب أنْ يكون، فما الذى ينشأ ويتحدد بناءً على هذا الالتزام؟ عندما نقول إنّ الإنسان يجب أنْ يكون نوعًا آخرَ فنحن نعرف أنه يجب عليه ذلك، لأنه من خلال الفعل قد يدرك القيمة الأخلاقية العليا للخير، وعندما نقول إنه يجب على الفنان إبداع الأعمال الفنية المثالية نوعًا ما، والعميقة، والمثيرة لآفاق الخيال، وأنْ يكون واعيًا بمشكلات عصره … إلخ، فإننا نعرف أنه يدرك- من خلال قيامه بذلك- أسمى القيم الجمالية.
تمثل الأفكار والمُثُل العليا وكل موضوعات الوعي الإنساني قيمةً، وكل منها له قيمةٌ في حد ذاته
per se. ويُعبّر مختلف الجماعات الإنسانية عن هذه القيم واهتماماتهم المتنوّعة بها من خلال سيرورات الأفكار والعقائد. وتسعى كل نظريات البحث في القيم إلى وضع المعايير التحديدية للفصل الحَدّي بين
ما هو خير، وما هو مرغوب فيه، وما هو مهم … إلخ.
والإطار المحوري لمعظم هذه النظريات هو فَهم ما إذا كانت حالة ما خيّرة أو طيبة أو نافعة
أو مسببة للسعادة أو محققة للجمال … إلخ، لأجل توضيح الكيفية أو المبرر الذي من خلاله ينبغي العمل على تحقيق هذه الحالة، إنْ لم تكن موجودة من قبل، أو للعمل على استبقائها إنْ كانت قائمة بالفعل، أو حتى لأجل تطويرها لمزيد جمال ولمزيد قيمة.
بعض الماديين يربطون القيمة بالوجود المادي والدلالة النفعية للشيء، وغيرهم يربطها بالدلالة الاجتماعية والتاريخية للشيء([2]). وقيمة الشيء مطلقة عند المثاليين، لكنها تخضع لنسبية الإطار الذي يوضع فيه الشيء، لكنّ قيمة الشيء نسبية عند الماديين، وتتحقق تبعًا لكل سياق، ومجموع هذه السياقات يشكل القيمة الكلية للشيء، مثل الاختلاف حول جمالية بعض القصائد مثلا؛ إذ تتحدد قيمة القصيدة بحسب منظور الجمال ومنطلق التقييم عند من يتذوق معانيها.
لقد أقرّ “ديفيد هيوم” أنّ: “ما نسميه العقل ليس سوى كومة أو مجموعة من مُدرَكات مختلفة، وليس ثمة استحالة في فصل أيّ مُدرَك خاص عن الباقي، وفي هذه الحالة- لكون هذه المُدرَكات منفصلة من المجموعة- فإنها لا تصبح عقلية … لا يوجد شيءٌ في الموضوع المُدرَك يمنع من قبوله
في المجموعة، ومن ثَم فلا مانع من أنْ يكون عقليًّا”([3]). هناك إذن عناصر تدخل إلى العقل وتخرج منه دون أنْ تفقد شخصيتها وخصائصها، وعندما تترك الميدان العقلي، وتصبح غير عقلية، فإنها لا تفقد وجودها بالضرورة، وخلال فترة عقليّتها قد تظل في ميدان آخر مثل العالم الفيزيقي([4]).
إنّ مصطلح “قيمة” ليس له معنًى تصوريٌّ بقدر ما هو عاطفيٌّ، فالحق والخير وما ينضوي تحتهما من قيم ليس شيئًا جسميًّا أو عقليًّا يمكن ملاحظته بالتجريب، لكنّ عين العقل تظل راصدة لها جميعًا، ولذلك فإنّ مبحث القيم من أصعب مباحث الفلسفة، فأحيانًا يستحيل التحليل. وهناك خلاف كبير حول مثل تلك الأطروحات، وجدل واسع حولها.