رواية
فصول من رواية ” ديموطيقي” جزء 8 لـ عوني صادق

عوني صادق
( 21 )
أضواء ملونة تركض ، وهو بين اليقظة والنوم ، توالت الأحداث كأضغاث أحلام ، مثل شريط فيلم سينمائي قديم ، توالت اللقطات في سرعة ، ولكنه كان قادرًا على متابعتها رغم رداءة الصورة ، قادرًا على أن يعيش مغامرة أقرب إلى السحر .
رأى ..
…..
حل الغد وكان عليه أن يقضى الكثير من الأعمال قبل السفر إلى شرم الشيخ ، ساعات محدودة كانت تلاحقه ، تناول فطوره وقال لأبيه :
-
سأتزوج عفاف .
كان ينتاب الأب قلق خفي على أبنه الذي تغير حاله ، مضى به القلق وأجج الغضب ثورة وانفعالًا في صدره لم يهدأ ، اتسعت عينا الرجل فزادت غضون جبينه ، كان ينتابه قلق خفي قال لابنه غاضبًا :
-
وكأن ليس لك أهل !
خرجت الأم عن صمتها ، وقالت :
-
دون أن نراها ؟
صاح إبراهيم :
-
وما الفائدة .
وواجه أخاه في حده ، وقال معنفاً :
-
يكون في علمك شقة الدور الرابع عملتها بفلوسي .
ابتسم يوسف في هدوء وقال :
-
وسوف أساعدك في تشطيبها .
تراجعت حدة إبراهيم وغمغم :
-
شكرًا ، ساعد نفسك .
تناول يوسف يد أبيه وقبلها ، وقال :
-
عفاف لن تترك أمها ، سنتزوج في شقتها مؤقتًا .
زفر إبراهيم نفسًا في غيظ ، وقال :
-
تأخرت على المحكمة .
وفر خارجًا .
استدرك يوسف لأمه وضم رأسها بين يديه ، قبل جبينها وقال :
-
أنا واثق أن عفاف إنسانة نادرة ستعجبك .
لاذت الأم بالصمت ، وواصل يوسف حديثه :
-
بعد الظهر سأسافر إلى شرم الشيخ ، لأعمل في أي مستشفى خاص هناك .
قال الأب وهو يصافح ابنه :
-
جرب ، ولك مني الدعاء .
وهو في الطريق إلى موعده مع عفاف ، حفلت رأسه بأسئلة شتى ، كانت تلاحقه وهو يؤجل الإجابة عليها ، يقينًا كان يشعر بمس من السحر زاد قوته وقدرته ، واحتد ذكاءه ، تطارده صلصله الأحداث الموغلة في التاريخ ، ويجد نفسه يردد .. ألا لعنة الله على الوثيقة التي سحرته ، وقذفت به إلى حافة الجنون ، جنون فريد ، جنون من نوع خاص ، جنون حوله إلى مارد قوى يتحدى .. لا زمان ولا مكان يقف أمامه أو وراءه ، أصبح كائنًا خرافيًا ، تتساقط فوق عقله الإجابات عن كل الأسئلة ، تدفع به عجلة الزمن إلى أعماق التاريخ ، يرى نفسه وسط الجنود التي تجابه قوات تيمورلنك ، وهو يبيد البلاد والعباد ، يسمع صهيل الخيل ، وقعقعة السيوف ، وصراخ الجنود .
في الخيمة الموشاة بالذهب كان يقف بالقرب من ابن خلدون ، ﺑﺴﺒﺐ ﻗﻠﺔ اﻟﻨﻮم ، وﺑﺪا وجهه ﺷﺎﺣﺒًﺎ من قلة النوم ، لكنه كان سعيدًا ، قال لقواده فرحًا وهو يصفق بكفيه :
-
ﺣﺴﻨًﺎ .. اليوم مات السلطان الظاهر برقوق ، وعمل رجالنا على نشر الاضطرابات والفتن والمؤامرات بين المماليك في القاهرة .
همست لابن خلدون في حسرة :
-
وخلفه ابنه الطفل الناصر فرج .
-
ستعجل الانشقاقات في دولة المماليك بالنهاية .
صاح تيمور لنك في وجوه قواده :
-
الحروب التي نخوضها كانت تبدأ بمناوشات تسبب لنا خسائر لا لزوم لها ، لذلك سنعلنها من الآن حربا شاملة ، أيها الفرسان ، استعدوا لغزو الشام .
….
أفاق من غفوته ، على نداء سائق التاكس :
-
كوبري القبة .
انتظرها قبالة المستشفى العسكري ، دقائق ووجدها تقترب بسيارتها ، عندما رأته شملتها الفرحة ، استقرت إلى جوارها .
كانت عفاف قد تأهبت على أن تهب حياتها لزوجها ، وانقشعت إلى الأبد السحابة المثقلة بالحزن وخيبة الأمل ، أخيرًا تصالح معها الحظ وعوضها الله عن صبرها بيوسف ، شملها الرضا ورغبة أكيدة في إطلاق مشاعرها التي أغلقت عليها قوقعة اليأس والقنوط ، فقد رفع يوسف صدفتها الصلبة ، خرجت منها مثل فراشات ملونة ، واستنامت اللذة في أعماقها ، هكذا فعل بها حبيبها يوسف .
رباه رباه .
أي سعادة تشملها ، طاردت خوفها الدفين من مفاجآت تقبع على قارعة طريق سعادتها ، تنقض عليها بسيف حاد .
قال لها :
-
سأسافر شرم الشيخ ، وعندما أعود في أول أجازة سنتزوج على الفور .
قالت متدلله :
-
ما هذا ! هو سلق بيض ؟
أحتوى وجهها في المرآة ، وقال :
-
أنا على استعداد نكتب الكتاب الآن .
-
بدون أي استعداد ، ترتيبات وفرح .. حجز صالة وفرقة . و ..
-
اطمئني .
-
……
-
……
……..
شملت وجهه بنظرتها العميقة ، تبحث عما يخفيه عنها كانت ابتسامته صادقة ، هادئة ولكن وراءها شيء ما ، سر ما !
ينساب نهر الحب في قلبها ، تحفه زهور يانعة .
في الشقة جلست الأم أمام التليفزيون تشاهد فيلم قديم ، وجلس الحبيبان في البلكونة المطلة على شارع جانبي وتناهت أصوات الجيران ونداءات الباعة .
قالت عفاف ، وهى تقدم الشاي لحبيبها :
-
طالما أنت معي أنا مطمئنة .
من الآن لن تدع لسوء الظن سبيلًا إلى قلبها ، عللت قلقها وخوفها بسبب رواسب تجربتها وجرحها القديم ، بعد السهرة أصرت على اصطحابه إلى موقف عبود ، وهى تكظم قلق خفي ، فالسفر يعنى لها تجربة أليمة ، سافر أبوها في رحلة بعيدة ولم يعد ، عبد الرحمن محروس عامل الأوقاف الذي لقيَّ حتفه قرب فرشوط ، أصرت الأم على رؤيته قبل دفنه ، قبلت جبينه ، وبللت دموعها وجهها الناصع البياض ، وهم يحملونه إلى قبره ، واختفى إلى الآن .
في دقائق الانتظار قالت له :
-
لا تتأخر .
-
سأغيب أسبوع .
-
سيمر هذا الأسبوع عليَّ كالدهر .
-
أحبك .
-
أنا .
-
حبيبتي .
-
كيف أحبك لترضى عنى ؟