فرضية اللغة وجماليات النص
التعبيرُ والتفكيرُ متلازمان ، لا تتحققُ غايتُهما إلَّا باقترانِ أحدهما بالآخرِ شريطةَ أن يستعينَ كلاهما باللغةِ ، و لا يستطيعُ الإنسانُ أن يصيرَ إنساناً بالفعـلِ إلَّا بقدرتِه على استغلالِ إمكاناتِه في التواصلِ ، وهذا التواصلُ لا يتحققُ إلَّا عبرَ اللغةِ ، فالإنسانُ دوماً في حاجةٍ أصيلةٍ للتعبيرِ سواءَ بالكلامِ أو الكتابةِ ، وهنا تكونُ أداتُه الرئيسةُ في الحالين اللغةَ ، لقد كانت اللغةُ الشغلُ الشاغلِ للإنسانِ منذ بداياتِه ؛ فأخذ يستقصي أسرارَها ، وظلَّ سحرُ اللغةِ يداعبُه ؛ فلم يُطفئ لـدى الإنسانِ جـذوةَ البحـثِ والتفكيرِ فيها ، ولم تتوقفْ دراسةُ اللغةِ عبرَ الأزمانِ ، بل ظلت مستمرةً حتى الآن ، وقد حدث في دراسةِ اللغةِ تحولٌ بعد أن كانت في القديمِ تعتمدُ على الانطباعيةِ الذاتيةِ ، صارت الآن دراسةً علميةً تندرجُ تحتَ قـوانينَ وأسسٍ تنظمُها ، وراحت تتواصلُ مع شتى ضروبِ المعرفةِ ، حتى أضحت علماً منهجياً له أصولُه المنظمةُ . تمثلُ اللغةُ كلَ شيءٍ في الأدبِ ؛ لأنَّها الأداةُ الوحيدةِ التي يستخدمُها الكاتبُ لصوغِ أفكارِه وإبرازِ الجمالياتِ في النصِ ، ومن ثَمَّ كان حتماً الالتزامُ بسماتِ اللغةِ ، فاللغةُ في النصِ السردي تتسمً بالتكثيفِ كونها ركناً أصيلاً في بنيويةِ النصِ وعلى الكاتبِ توخي الحذرِ في استخدامِها ؛ فلا يُصَابُ القارئُ بالمللِ ، وعليه جذبُ القارئ بلغةٍ تنسجمُ مع العملِ وتُثريه جمالياً مع حتميةِ الحفاظِ عليها من العثراتِ الإملائيةِ والأخطاءِ النحويةِ ، كما يجبُ أن تخدمَ اللغةُ سيرَ الأحداثِ في العملِ السردي ، وأن تكونَ دقيقةً في الوصفِ ؛ كي لا تشتتُ ذهنَ القارئِ مما يضعفُ عنصرَ التشويقِ ، وبناءً عليه صار لزاماً أن تخدمَ اللغةُ النصَ وتسهمُ في البناءِ السردي .
فرضية اللغة وجماليات النص.. تابع
إنَّ جمالياتِ النصِ عنصرٌ وثيقُ الارتباطِ بشتَّى الفُنونِ ، وكلُّ إبداعٍ نبدعُه ، نجدُها شديدةَ الارتباطِ بشكلٍ وثيقٍ بالأدبِ عامةً ، وهذا ما يقدمُه لنا المبدعُ من خلالِ لغةٍ جميلةٍ وتراكِيبٍ فريدةٍ في تناغمٍ إبداعيٍ راقٍ يسمو بالوجدانِ والفكرِ ، إنَّ غايةَ المبدعِ خلقُ تجربةٍ جماليةٍ ومُبدعةٍ ، يكسرُ فيها التقليدَ ، لذا يجِبُ أن يتمتّعَ بالأفكارِ الخلَّاقةِ والإبْداعِ المتناميِ في الفكرِ والأُسلوبِ ، و قوّةِ الملاحظةِ والرؤيةِ الناقدةِ والتفكيرِ العميقِ ، يرصدُ المُجْتمعَ حَوْله ؛ يحلّلُ قضاياه الاجتماعيةَ والفكريةَ والإنسانيةَ ؛ ليكتبَ عنها ، ويعكسُ نظرتَه الواسعةَ للحياةِ ولنفسِه ، لذلك فإنَّ النصَ الذي ينصبُ على فكرةٍ واحدةٍ نصٌ هزيلٌ فكرياً ؛ تنفذُ طاقتُه الفكريةُ سريعاً ، وسيحتاجُ الكاتبُ إلى روافدٍ عديدةٍ تتعلقُ بالنصِ ؛ كي تضُخَ الروحَ فيه بسهولةٍ وبشكلٍ طبيعي ، و هذه الروافدُ المكملةُ تكونُ أكثرَ تأثيراً و إمتاعاً من الفكرةِ الواحدةِ الرئيسةِ ، إنَّ تذوقَ النصِ لا يقتصرُ على تذوقِ المكتوبِ ومعانيه فقطْ ، ولكن يتجاوزُه إلى أفكارِ الكاتبِ في النصِ ، كلُ ذلك المضمونِ وتلك الروافدِ يمنحان الحياةَ للنصِ دون أن يكونَ هناك شيءٌ ماديٌ يدلُ عليه ، وبدونِ ذلك المضمونِ وتلك الروافدِ المتعددةِ ؛ سيفقدُ النصُ تأثيرَه ، ويصبحُ لحظياً لا يتعدى وقتَ قراءةِ النصِ ، ومن ثَمَّ ينساه القارئُ .
إنَّ هدفَ السردِ الأدبي الرئيسِ صَوغُ وتقديمُ رؤى الكاتبِ في قضيةٍ ما ، أو فكرةٍ ما ؛ لذا يَحْرِصُ الكاتب على تقديمِ رؤْيتِه وأفكارِه من خلالِ إبداعِه الأدبي ؛ فيبتعدَ عن تكرارِ أو تجميعِ أفكارِ الآخرين ليكونَ نفسَه . إن الكاتبَ المبدعَ هو الذي يخلقُ أُسلوبَه الخاص وتجربتَه الأدبيةَ الفريدةَ من خلالِ تأملِ كتاباتِه ، والنقدِ الذاتي المستمرِ لها ، والوصولِ للأسلوبِ الأفضلِ الذي يبتغيه ، والأسلوبُ هنا يشملُ اللغةَ التي يستخدمُها، وطريقتَه في سردِه الأدبي وطرحَ أفكارِه المبدعةِ وتناولَه للقضايا التي يطرحُها .
إنَّ الإبداعَ الأدبي يخرُجُ من أعماقِ الكاتبِ ومن مشاعرِه وأفكارِه ، وهو تعبيرٌ صريحٌ عن كاتبِه ، فهو من ذاتِه وإلى القارئِ . نضيفُ لما أسلفناه ذكراً أنَّ عباس محمود العقاد في كتابِه ” اللغة الشاعرة ” يضعُنا أمامَ جمالِ اللغةِ العربيةِ وسرّ تفوقِها على سائرِ اللغاتِ العالميةِ ، وينقلُ لنا اعترافَ علماءِ اللغاتِ في العالمِ للغةِ العربيةِ الفصحى بالجمالِ الكاملِ .
بقلم القاص والروائي سمير لوبه