منوعات

عن الشاعر المسكون بالمشرق

د. فايز القنطار

عن صفحة الصديق الشاعر مرزوق الحلبي :
عن الشاعر المسكون بالمشرق
(كلمتي في أمسية استذكار الشاعر نزيه خير التي نظمتها دار جدل يوم الجمعة الأخير، في جاليري صالح القرى)
هي أمسية استذكار الشاعرِ بالشعرِ، والجماليّ بالجماليّ
نزيه خير شاعر غنائيّ. تنساب قصيدته في أرض اللغةِ كجدول ماء.
فالموسيقى حاضرة. والعذوبة حاضرة. والواحات الخضراء تملأ اللغة.
صورُ المجاز على المجاز ضمانة لحضور الشعرِ.
لشعرِ نزيه سماتُه، في المبنى والإيقاع، وفي المعنى على امتداده. واسمحوا لي أن أذكر بعضها من قبيل أن نُدرك حجم الشعر الذي أمامنا وعلوَّ قامة الشاعر.
نحن أمام شعرِ المثقّفِ الواسع المدى. يشي بوعي وجودي ممتدّ من الحارة الغربية إلى ابعد نُقطة في الكون. فهو الشاعر الذي عرف كيف يبدأ من الحميم ومن التفاصيل، ومن المكان الصغير الدافئ وينتهي في مجرّة تائهة مرورًا ببغداد وتطوان والقاهرة والشام.
شاعرنا مولع بالتاريخِ، تاريخِه، تاريخِنا وتاريخِ المشرق. فأتى شعره مسكونًا بالتاريخ ودلالاته. وكل قصيدة لا يزورها التاريخ ناقصة.
قصائده التي كتبها منذ عقود حيوية إلى هذه اللحظة. هذا هو الشعر الذي لا ينفد. لا يتقادم. لا يهرم. لا يضمحلّ مع الوقت. قصيدة نزيه أبعد من الوقت.
شعر نزيه هو تجربة خلّاقة في الغوص عميقًا، في السعي وراء الجوهر البشريّ، وراء ذات الإنسان، كلّ إنسان حيثما هو. شعر هو تجربة مُبدعها في مقاربة مسائل وجودية. قول في السلطان الجائر، وقول في العدل الضائع، وفي الخيبة والانكسار وفي الحياةِ اليوميّة والوجوه التي نألفها. قول من الذاكرة ومن شغف الحياةِ وأطيافهِا.
شعر نزيه هو مسار الهوية من خصوصيتها إلى كونيتها. وقد عبّرت القصائد عن تجربة شاعر شاعر، لا ينغلق في نص ولا في إطار هويّة مُقفلة أو عقيدة مهما أشرقت ـ إنه الشاعر حين يصير جوهرة أو حين يدلّنا على حبّة اللؤلؤ في المحارة، على الجوهرِ البشريّ.
شعر نزيه هو جعل المألوف مُدهشًا إلى أبعد الحدود بلغة تتسم بالعذوبة الخالصة والرمزية الدالّة على المعنى.
شعر نزيه جعل الحارة الغربية ـ مجاز الدالية ـ كونًا كاملًا وجعل من الكون حياةً في الحارةِ الغربيّة.
وأرانا بحاجة إلى هذا الشعر بوجه خاص.
إلى الجماليّ فيه مقابل القُبح الضاربِ أطنابَه،
وإلى المعنى فيه ضد التفاهةِ والتافهين،
وإلى الجوهريّ فيه ضد الغيابِ والخواءِ،
إننا، إذ نحيي ذكراه، نستعير منه شعره المصفّى في مواجهة الابتذال والتسطيحِ.
إننا بحاجة إلى شعر الغضب المقدّس في قصائد نزيه لنبنِي مدينتَنا الفاضلة على أنقاض عالم كرهه نزيه وعرّاه.
نستعين بشعره وبالجماليّ كي نحمي قلوبنا من العطب.
نستذكر الجماليّ في شعرِ نزيه في حضرة الجمالي المرئيّ والمرسوم للفنان صالح القرى ـ صاحب هذه الصالة الراقية.
فتلتقي الأماكن في شعر نزيه بالأماكن في لوحات صالح. حوار متكامل لم يقصده الشاعر والفنان لكن هي حتّمته التجربة الإبداعية في الحالتيْن وأثر المكانُ في أهله.
لنزيه حارته الغربية ـ حارتنا
ولصالح، أيضا، حارتُه القديمة ـ حارتُنا وحارة نزيه
عند نزيه خوض في تفاصيل المكان والوجوه والأسماء ـ ولصالح تجربته في استحضار الصبّار وشارع الصبّار وزرّيعة حوش الدار.
فلا يعود المكان موقعًا في الجغرافيا ولا عقارًا يُباع في السوق، بل يصير المعنى، معنى الوجود، والناس، وحياة الحيّ ورموز الحيّ وعوالم أهله. يصير المكان كلّ الوجودِ والذاكرة والتوق والحنين والأصوات.
يصير المكان حياتَنا هنا.
لو أن واضعي الخرائطِ الهيكلية يعرفون ما تعنيه الحارة الغربية لنزيه أو لصالح أو لنا، لوضعوا الأقلام ورحلوا.
لو أن تُجار العقارات رأوا الحارة الغربية بعيني نزيه وصالح ـ لاعتذروا؟
لو كان معدّو الخرائط الهيكلية يقرأون الشعرَ ويفقهون الرسمَ لكانت حياتُنا أحلى.
لقد رأى نزيه بعيني روحه الدالية زهرة فلّ في نيسان وهي ليست صورة مجازية ـ بل أفهمها كوصيّة لي ولنا.
وهذه الأمسية محاولة متواضعة لإبقاء الدالية زهرة فلّ من خلال ثقافة نوعيّة تحمل المعنى والجماليّ رسالةً في وجه التصحّر والضجيج وفي وجه الهاربين من الأسئلة.
وأمامنا أمسيات مماثلة. القريبة منها مخصصة لاستذكار سلمان ناطور وإرثه

 


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه:

تم كشف مانع الإعلانات

رجاء تعطيل مانع الإعلانات لكي تدعم موقعنا شكرا