عبد الله حنا
شتان بين حملة طائفية لاسماعيل الأطرش 1860
وحملة وطنية يعربية لزيد الأطرش 1925
بأسىً عميق يتناول كاتب هذه الأسطر , لأول مرة , الوضع الطائفي على حقيقته مجردا من الأغطية التي تغلفه . فنحن جيل منتصف القرن العشرين , الذين رضعنا لبان أفكار النهضة العربية ومنطلقاتها لم تكن المسألة الطائفية تخطر على أذهاننا . وكنا نعتقد أن العصر ” العثملي ” القائم على الولاءات الطائفية والعشائرية قد ولّى زمانه . وإذا بذلك العصر مع تراجع النهضة العربية يطلّ من جديد متجاوزا الولاءات الوطنية وسنن الدولة الحديثة ليعيدنا القهقرى إلى الوراء … فما العمل ؟ . .
قياساً على ” نفير سوريا ” لبطرس البستاني الجريدة التي اصدرها في أعقاب أحداث 1860 , نحن اليوم بحاجة إلى ” نفير ” جديد يعيد للوطن والعروبة وجههما المشرق تحت راية ” الدين لله والوطن للجميع ” التي رفعها مجاهدو الثورة السورية الكبرى عام 1925 .
وشتان ما بين الحملة الطائفية الدموية التي قادها عام 1860 اسماعيل الأطرش من جبل حوران ( الدروز ) إلى إقليم البلان وجبل لبنان ، وبين الحملة الوطنية اليعربية ذات الأبعاد الإنسانية التي قادها من جبل حوران عام 1925زيد الأطرش ( شقيق سلطان باشا ) إلى إقليم البلان داعيا إلى الوحدة الوطنية والثورة على الاستعمار .
{ اثناء التحضير لكتابي عامية جبل حوران زرت في القريا زيد الاطرش للاستعانة بمعلوماته وما سمعه من المسنين قبله . واردت ان اعرف منه من كتب البيانات الموقعة باسم زيد الأطرش ( وكنت أضمر في سري انه كان في ذلك الحين شابا غضا والبيان على مستوى رفيع من النضج الوطني ) ، فأجاب فورا وبنبرة تحمل في طياتها ما تحمل : ” نحن اميين لا نقرأ ولا نكتب ” رافضا بهذا الجواب التهرب من الإجابة على السؤال . فاضطررت الى الصمت . وفي تقديري ان احد رجال العربية الفتاة هو الذي كتب تبلك البيانات الوطنية المزيلة باسم زيد الأطرش . }
اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 في جبل الدروز ( واسمه التاريخي جبل حوران ) ، وسرعان ما انضمت إليها فئات وازنة من فلاحي الغوطة والقلمون ، وتحولت ثورة عامة لمعظم انحاء سورية الجنوبية بعد تعاطف وتأييد قوى اجتماعية للثورة في دمشق وفي مقدمتها مثقفون نهضويون وعلى رأسهم عبد الرحمن الشهبندر . كما آزرالثورة الوطنية بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس غريغوريوس حداد، الذي أطلق عليه الثوار لقب ” محمد غريغوريوس ” .
في خريف 1925 توجهت حملة من الثوار الدروز بقيادة زيد الأطرش ( شقيق سلطان ) من جبل العرب ( واسمه التاريخي جبل حوران ) باتجاه اقليم البلان في جنوب لبنان ، وحلّ رجال الحملة ضيوفا عند أقربائهم في القرى الدرزية .
كانت الحملة تحمل على منكبيها هموم الوطن المتطلع إلى الإستقلال والتحرر من الإحتلال الاستعماري . حملة وطنية كان مفكروها من النهضويين العرب يتطلعون إلى الخلاص من عبء التراث المملوكي – العثملي السلطاني الجاثم فوق الصدور ، ويهفون بابصارهم إلى بناء دولة وطنية يعربية في أرجاء بلاد الشام ( والعراق ) . ورافق الحملة عدد من الوطنيين من غير الدروز جاء في مقدمتهم الشخصية الدمشقية نزيه مؤيد العظم ، الذي أرّخ لهذه الحملة . ولتوضيح أهداف الحملة ومراميها الوطنية ، صدر باسم زيد الأطرش عدة بيانات إلى أهالي لبنان من مسلمين ومسيحيين ، وبعضها موجه : : ” إلى إخواننا المسيحيين في قضاء حاصبيا وراشيا ” ، تعلن عن بدء مرحلة جديدة تمثلت بصعود المشاعر الوطنية والدور التاريخي لقادة الحركة الوطنية السورية ( اليعربية ) في تجاوز المسألة الطائفية وتوحيد البلاد على أرضية وطنية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . إنها بيانات تضع حدا فاصلا بين الحملة الطائفية لإسماعيل والحملة الوطنية لزيد .
ننقل كنموذج عناوين ومقتطفات من بيانين يقدمان صورة أجواء ومرامي الحملة الوطنية المنطلقة من جبل الدروز ( واطلق عليه الوطنيون اسم جبل العرب بعد 1937) واسمه التاريخي جبل حوران .
بيان تحت عنوان :
الى اللبنانيين الكرام
منشور القيادة العامة للثورة
الدين لله والوطن للجميع
معلنا أن الثورة ” ليست درزية محلية ، بل هي سورية وطنية يشترك فيها جميع ابناء سوريةعلى اختلاف مذاهبهم ، وهي تقصد إلى أغراض وطنية بحتة لا شأن فيها للفوارق والنزعات الدينية ” .
بيان تحت عنوان :
إلى وجوه وأعيان الدروز والسنيين والشيعيين في جبل لبنان
الدين لله والوطن للجميع
جاء فيه :
” … بلغنا أن الحكومة الإفرنسية تجردكم من سلاحكم وتُسلّح إخوانكم أبناء الطوائف الأخرى بحجة الخطر على سلامتهم الناشيء ، على زعمها ، عن الثورة السورية الوطنية . على أننا نعلم نحن ، كما تعلم الحكومة نفسها ، أن لا داعي لهذا السلوك الغريب الذي لم يسبق له مثيل في هذا العصر في أي بلاد من بلاد الله . ذلك لأن أبناء البلاد الذين تربطهم الروابط القومية وتشد بعضهم إلى بعض المصالح الوطنية ليسوا في حاجة إلى هذه التدابير الضارة ، وهم في خير وسلام .
وقد استدعت الحال أن نخصكم بهذه الرسالة على كره منا لأننا لا نريد أن نخاطب فريقا من أبناء الوطن بصفته الطائفية , وذلك لكي نحذركم من سياسة الحكومة ونوصيكم بأن تكونوا صبورين ونحثكم على التقرب من إخوانكم وبني جلدتكم ووطنكم من أبناء الطوائف الأخرى ونرجوكم أن تزيلوا بحسن سلوككم وصبركم كل سوء تفاهم بينكم وأن تتفقوا جميعا على الذين يسعون لتكدير العلاقات الودية من الجهلة والسفهاء الذين لا يدركون ما يصنعون فتضربوهم بيد من حديد . إننا لنرجوا أن تكونوا أنتم وجميع أبناء وطنكم الآخرين عند حسن ظننا بكم من الحصافة والتعقل والوطنية الصادقة ” .
نؤكد ثانية موضّحين :
شتان بين حملة طائفية لاسماعيل الأطرش 1860 ، وحملة وطنية يعربية لزيد الأطرش 1925 .
وزيد هو شقيق سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة الوطنية ( 1925 – 1926 ) المناهضة للانتداب الفرنسي ‘ التي عمّت جنوب سورية وكانت بمثابة تحالف بين القوى الوطنية الدمشقية المسلمة السنية ، وأهل الريف وفي مقدمتهم بني معروف الدروز في الجبل .
وإلى جانب سلطان برز القائد الفكري للثورة الدكتور الطبيب الدمشقي عبد الرحمن الشهبندر .
وتخليدا له ألّف صاحب هذه الصفحة عبد الله حنا كتابا عن الشهبندر بعنوان :
عبد الرحمن الشهبندر علم نهضوي
ورجل الوطنية والتحرر الفكري ”
نشرته 1989 دار الأهالي بدمشق .
وتصدّرالكتاب اهداء حمل الجملة التالية :
” إلى زوجتي سكريد ينسن ، التي حملتني للكتابة عن الشهبندر دفاعا عن حرية الفكر ” .
والمعروف أن الشهبندر اغتالته في عيادته بدمشق في حزيران 1940قوى ظلامية معادية للتنوير والنهضة العربية .
الحلقة القادمة :
من الطائفية 1860 إلى الوطنية 1925 والعودةإلى الطائفية والمذهبية