زوربا اليوناني العالم ماثل أمامنا والمستقبل لم يولد بعد
كتب – عزت عمر ( سوريا ) 
تقديم..
نيكوس كازانتزاكيس كاتب روائي يوناني وعالمي (1883 – 1957) وقد اكتسب عالميته من خلال روايته “”زوربا اليوناني” ولا سيّما بعدما أنتج فيلم عنها عام 1964 بأداء الفنان الكبير أنطوني كوين فضلاً عن موسيقا الفيلم الشهيرة الني وضعها ميكيس ثيودوراكيس(1925) التي ما زالت حتّى يومنا هذا تعزف في بقاع العالم فيتهادى الراقصون على إيقاعها الساحر، وقد تعززت هذه الشهرة مع إنتاج روايته الأخرى ” الإغواء الأخر للمسيح” للسينما عام 1988، وقد بلغت أعمال كازنتاكس الروائية نحو 10 أعمال، وقد رشّح لنيل جائزة نوبل وخسرها مقابل صوت واحد لصالح الأديب الفرنسي ألبير كامو، الذي صرّخ بعدها أن كازنتزاكيس يستحقها أكثر بمئة مرة منه.
وامتاز نيكوس كازانتزاكيس عن غيره من الكتّاب بتأليف مجموعة كبيرة من الكتب في أجناس الأدب والفلسفة المختلفة ولا سيّما تراجيدياته الإغريقية وعمله الشعريّ الضخم الذي حاكى فيه أوديسة هوميروس.
الجوهر
زوربا اليوناني، كما أسلفنا، عمله الروائيّ الذي احتلّ مكانته اللائقة في سجل الخلود بتناوله مفهوم الحرية والتعمّق في دواخل الذات الإنسانية، هناك حيث المنابع الأصيلة القارة ربّما في الخلايا أو في ما يسمّى بالحمض النووي (دنا) هناك حيث يستقر الجوهر. وبلاشكّ فقد تأثّر كازنتاكيس بأفكار عصره لكنه تجاوزها على حدّ تعبيره في إحدى مقابلاته، وإلى ذلك فإنه لم يكن صوفياً بالرغم من تأليفه كتاب “التصوّف” وبخاصة في هذه الرواية، وإنما تناول مفهوم تجاوز الذات باستمرار للوصول إلى مملكة الله، وذلك عبر شخصيته الفذّة “ألكسيس زوربا” الرجل الستيني البدائي البسيط الذي يتمكّن من حل المشكلات كافة و “يحسمها بضربة واحدة” بتعبير باسيل”المعلّم”: وهو السارد المثقف الذي يمكن اعتباره شخصية تعيش لحظة انتقالية ما بين عالمي الكتب والحياة بمعناها الواسع.
ونظراً لأن صديقه وصفه بـ “عثّ الكتب” فقد اقتنع اليوم أنه لابدّ من الخلاص من هذه “الحشرة” التي لازمته، فاستأجر منجماً قديماً في جزيرة كريت المواجهة لبحر ليبيا لكي يعيش حياته مع الناس البسطاء من عمّال وفلاحين بعيداً عن عالم الكتب، ولكنه على الرغم من ذلك حمل معه مخطوطة كان قد شرع في كتابتها منذ سنتين ولم تنته بعد، كتقنية تعتمد أسلوب الإثارة والتوقّع.
التعارف..
يلتقيان مصادفة في أحد المقاهي بمرفأ بيريه خلال انتظار باسيل السفينة المسافرة إلى جزيرة كريت، رجل ستيني طويل القامة مسطّح الجمجمة قويّ الملامح سأله إن كان بإمكانه الذهاب معه لخدمته ولو كطبّاخ، ومن هنا تنطلق الأحداث وتبدأ عملية الكشف عن الكسيس زوربا رئيس العمال في أحد المناجم، وقد ترك عمله منذ أسبوع، ويحمل آلة السانتوري الموسيقية حيثما حلّ وارتحلّ، فهو عندما لا بجد عملاً يطوف في الحانات ويغني الأغاني الشعبية المقدونية كي يحصل على رزق يقيه العوز، وبذلك يذهب الروائي على إقامة المقارنة بين الشخصيتين: الأوّل شاب غني ومثقف، والثاني عامل فقير ومسن، لكنه يمتاز بجملة من الصفات التي تدعو إلى الإعجاب ومنها وضوح الموقف وفنان بوهيمي مشبع بثقافة حياتية وعلى حدّ تعبير السارد: “إنّ هذا الرّجل لم يذهب إلى المدرسة، ولم يتبلبّل عقله. لقد رأى من جميع الألوان وانفتحت نفسه، واتّسع قلبه دون أن يفقد شجاعته البدائيّة. إنّ جميع المشاكل المعقّدة التي تبدو بلا حلّ يحسمها هو بضربة واحدة”. وهكذا فإن شخصية زوربا ستبدو آسرة دائماً لاسيّما مع إمكانية تخيّله بشخصية أنطوني كوين وصوته الأجش وحركاته المتقنة، فتتداخل الشخصيتان بالنسبة للقارئ الذي شاهد الفيلم، وقد روت بعض المصادر أن كازنتزاكس قد التقى بهذه الشخصية واقعياً وأعجب بها، وحتّى لو لم يكن ثمّة لقاء فإن نموذج زوربا حاضر بكثرة في الحياة الواقعية، ولكنّ المهارة في توظيفها روائياً كما فعل المؤلّف.
الشخصيات النسائية ..
إلى جانب زوربا والمعلم هناك السيدة هورتانس ارتبطت بعلاقة مع زوربا وهي معنية عجوز طافت بلداناً كثيرة ثمّ جاءت لتستقر في الجزيرة وهي محبّة للحياة تقترب من فلسفة زوربا، وإلى جانبها الأرملة الفاتنة نموذج الإغواء تخلب لبّ باسيل وتدفع شاباً من القرية للانتحار بعدما رفضت عرض الزواج منه، فانتقم منها أهل القرية وقتلها الأب المكلوم بوحشية.
السانتوري والرقص ..
علاقة زوربا بالآلة الموسيقية المسمّاة “سانتوري” ستبدو للقارئ لافتة وقويّة، فكيف إذاً بالنسبة لمخرج متمرّس راقي الأحاسيس من مثل المخرج القبرصي ميخائيل كاكويانيس (1922ـ 2011) ابن الثقافة اليونانية ذاتها والذي عزز بدوره فاعلية هذه الآلة في فيلمه عبر اختياره موسيقياً فذّاً هو ثيودوراكيس إلى جانب الرقصة التي بات اسمها على كل لسان، وبذلك يمكننا القول إن السانتوري في الرواية كان عنصراً أساسياً وأشبه بشخصية تعبّر عن مشاعر وأحاسيس زوربا فرحاً وألماً، صخباً وخفوتاً بكلّ ما يقتضيه الموقف من ممكنات تلحين الشحنات الانفعالية، وبذلك يمكننا القول إنه ليس عن عبث ارتمى زوربا في شبابه عند قدمي معلّم الموسيقا كي يعلّمه العزف.
الرحلة ..
لم تكن الرحلة إلى كريت برفقة زوربا إلاّ تقنية لجأ إليها الروائيّ كي يمضيان منفردين في الحوار الذي سيقود إلى تأثّر باسيل بفلسفة وسلوك زوربا الحياتية، بل في نظام التفكير نفسه، فالمخطوطة غير المنتهية التي حملها باسيل معه، كانت تمثّل خلاصة أفكاره الخلاصية بتبني الفلسفة البوذية في مسألة الحياة والموت والخلود، بمعنى أنها رحلة البحث عن المعنى الحقيقي للإنسان في خضم الحياة الواقعية، فثمّة مجتمع صارم مرتهن للعادات والتقاليد تذبح الأرملة الشابة أمامه دون اكتراث من أحد وينهب منزل السيدة هورتاني بينما هي مسجاة في سريرها، ومع ذلك يعيش هذا المجتمع حياته الطبيعية، وليس ممكناً إصلاحه بالنظريات والتعاليم، وهو ما عبر عنه زوربا بقوله: “اذهب الآن وعلّمهم أن للمرأة حقوق الرجل نفسها . .ما الذي ستستفيده من كل هذه الترهات البيانية ؟ إنك لن تفعل أكثر من أن تسبب له الإزعاج وتبدأ الخصومات ! فالدجاجة تريد أن تصبح ديكاً ! دع الناس مطمئنين ولا تفتح أعينهم ، إذا فتحت أعينهم ما الذي سيرون ؟ بؤسهم ! دعهم مستمرين في أحلامهم . . إلا إذا كان لديك عندما يفتحون أعينهم عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعشون فيه الآن . . ألديك هذا العالم ؟ وهذا يشابه إلى حدّ ما لحظة مراقبة باسيل الفراشة وهي تشقّ طريقها بحفر حفرة في شرنقتها في بطء شديد نفد معه صبره، فقام عبر النفخ كي يدفئها، وبدأت المعجزة تتحقق أمام عينه، غير أنها سوف تموت لأن ولادتها لم تنم طبيعيا ًتحت أشعة الشمس: ” رأيت أن جناحيها كانا منثنيين إلى الخلف ومجعدّين حاولت الفراشة البائسة أن تفردهما بجسمها المرتعش انحنيت فوقها وحاولت إن أساعدها بأن أنفخ فيها لكن دون جدوى فقد كان يجب إن تأخذ وقتها حتى تفقس ولابد أن فتح الجناحين عملية تتم بالتدرج في الشمس لكن كان قد فات الأوان.”
والخلاصة أن هذا هو العالم أمامنا ونخن نعيش فيه أما عالم المستقبل فلم يولد بعد، إنه كالضوء الذي ننسج منه الأحلام كما قال زوربا!