الادب الفرنسى حوار مع الكاتب الفرنسي هيكتور بيانشيوتي حول روايته: ما يرويه الليل للنهار
هيكتور بيانشيوتي (1930-2012)
من الادب الفرنسى حوار مع الكاتب الفرنسي هيكتور بيانشيوتي حول روايته: ما يرويه الليل للنهار
أجرت الحوار بالفرنسية وترجمته إلى العربية
دكتوراه السوربون الجديدة في الادب الفرنسى
أستاذ بكلية الآداب- جامعة طنطا
في يوم الإثنين 27 يناير 1997 وتحت قٌبةِ المجمعِ اللغوي الفرنسيL’Académie française، كان لي لقاءٌ مع الكاتبِ الفرنسي/ هيكتور بيانشوتي Hector Bianciotti (1930-2012) حولَ روايتِه ما يرويه الليل للنهار Ce que la nuit raconte au jour المنشورة في عام 1992 في دار النشر الفرنسية جراسيه وفاسكال Grasset& Fasquelle . ساعتها، كان عضوًا في لجنةِ القراءة والتحكيم في هذه الدار نفسها وكان عامً قد مضى على انتخابه في 18 يناير 1996 عضوًا في المجمع اللغوي الفرنسي في مقعد ِالكاتب الفرنسي الراحل/ أندريه فروسار André Frossard
ترى من هو هيكتور بيانشيوتي؟ وماذا عن روايته ما يرويه الليل للنهار. وماذا تم في هذا الحوار؟
هيكتور بيانشيوتي كاتبٌ فرنسي من أصل إيطالي – أرجنتيني وُلد في 18 مارس 1930 في مستوطنةِ كالشان أويست Calchin Oesteبإقليم كوردوبا Córdoba الواقعِ وسطَ شمال الأرجنتين.
معرفة المزيد عن الكاتب الفرنسى هيكتور بيانشيوتي

وماذا عن رواية هيكتور بيانشيوتي ما يرويه الليل للنهار؟
هذه الروايةُ هي الحلقة الأولى من ثلاثية روائية سير ذاتية فى الادب الفرنسى شرعَ هذا الكاتبُ في تأليفها عندما اقترب من الستين من عمره. الروايةُ الثانيةُ هي بعنوان الخطوة البطيئة جدًا للحب Le Pas si lent de l’amour (1995). والروايةُ الثالثةُ هي كأثر الطائر في الهواء Comme la Trace de l’oiseau dans l’air (1999).
تعرضُ رواية ما يرويه الليل للنهار لمرحلةِ تكوينِ الكاتبِ الروائي في منطقة البامبا Pampa الأرجنتينية والتي تمتد حتى الخامسة والعشرين من عمره. وهي تحتوي على العناصر المتواترةِ والمألوفةِ في كل سيرة ذاتية والتي لخصَها برونو فرسييه Bruno Vercier في مقاله “أسطورة الذكرى الأولى: لوتي، ليريس “Le Mythe du premier souvenir: LOTI, Leiris» كالتالي: “أنا ولدتُ. أبي وأمي. الدار. باقي الأسرة، الذكرى الأولى، اللغة، العالم الخارجي، الحيوانات، الموت، الكتب، الميول، المدرسة، الجنس، نهاية الطفولة”3.
فيم إذن طرافة رواية ما يرويه الليل للنهار؟ إنها في العنوان الرومانسي القائم على استعارةٍ مَكنيةٍ مُزدوَجةٍ وقائمة على التضاد وُفِق إليها الكاتبُ حيث شبه الماضي بالليل والحاضرَ بالنهار. إنه في غرائبية exotisme البيئةِ التي تدعونا إليها هذه الرواية وهي الأرجنتين وأمريكا الجنوبية. وهذا أمر غير مألوف في الروايات الفرنسية. إنها أخيرًا في تواتر صورةِ السجن عبر الرواية مع ما فيها من دلالاتٍ مألوفة: السياج والنظام والتقسيم التربيعي quadrillageوبالذات الحبس والاختناق والحرمان من الحرية والمراقبة والخوف والضيق والألم، الخ. إنها صورة تعبر عن حالة عصاب névrose تلازمُ صاحبَ ما يرويه الليل للنهار مدى الحياة.
حوار مع الكاتب
استغرقَ الحوارُ حوالي خمس وأربعين دقيقة. استهللته بسؤالِ هيكتور بيانشيوتي عن انتخابه كعضو في المجمع اللغوي الفرنسي، ثم تطرقتُ إلى المقصودِ بعنوان الرواية وإلى صراحةِ الكاتب وافصاحِه عن تفاصيلٍ حميميةٍ في حياته كطفل وإلى علاقةِ أدبه بالحقيقةِ الشخصيةِ وإلى الهدف من كتابةِ الرواية السير ذاتية وإلى تجربتِه الجنسية وإلى أهميةِ السيرة الذاتية كموضوعٍ في الأدب.
وكان أيضًا السؤال عن علاقة هذه الروايةِ بالروايات السابقة وكذلك وقفات عند عبارات خاصة بالكاتب طلبتُ منه تفسيرَها. وأخيرًا كان السؤالُ عن أهميةِ الأدب بالنسبة ل هيكتور بيانشيوتي وعن موقفِه من قضيةِ الإيمان.
نصُ الحوار:
د. ماجدة إبراهيم: تهاني لانتخابِك عضوًا في المجمعِ اللغوي الفرنسي. أودُ أن أعرفَ ̶ بصفةٍ عامةٍ ̶ هل يتمُ انتخابَ كاتبٍ ما في هذا المجمع بناءً على عملٍ خاصٍ ما بعينِه تَفوقَ حقًا فيه أم بناءً على مجملِ أعمالِه؟
هيكتور بيانشيوتي: لا أعتقدُ أن يكونَ الانتخابُ بناءً على كتابٍ واحدٍ، بالأحرى يكون بناءً على مسار الكاتبِ بالكامل، على كلِ ما نجحَ في كتابته.
د. ماجدة إبراهيم: عنوانُ روايتك ما يرويه الليل للنهار Ce que la Nuit raconte au jour شاعري جدًا. ومن جهةٍ أخرى، فهو أولُ شيءٍ استرعى انتباهي في الرواية. ماذا يُمثلُ؟ ما هو منطقُهُ الرمزي؟ ما هو أيضًا سببُ اختيارِك له؟
هيكتور بيانشيوتي: لم أختره. وإنما صادفته، لأن الليلَ هو الماضي والنهارَ هو الحاضر. ما يمكنُ لليل أن يرويه للنهار يعني هو ما يمكن للذاكرةِ أن ترويه لنا نحن.
د. ماجدة إبراهيم: لاحظتُ صراحةَ كبيرةَ في روايتك. إنك تعترفُ بكلِ شيء. إنك تقولُ كلَ شيء.
هيكتور بيانشيوتي: كيف يمكنُكِ أن تتخيلي أنني أقولُ كلَ شيء وأن ما أقولُه هو الحقيقة؟
د. ماجدة إبراهيم: الحقيقة؟ لا. لكن “كل شيء” يعنى أنك تتحدثُ عن تفاصيلٍ حميمة في حياةِ طفلٍ قد لا يرويها كاتبً آخر كالشهوانيةِ المبكرةِ للطفل مثلاً. إنه لأمرٌ مدهشٌ إلى حدٍ ما.
هيكتور بيانشيوتي: نعم، لكن الأمرَ كان كذلك. فعندما كان عمري ستة أعوام كنتُ أعرفُ كلَ شيء عن الجنسِ وكل ما يتم فيه. بالنسبة لي، كان أمرًا طبيعيًا. أنا لا أعرفُ الكرة الأرضية جيدًا، ولكنني أعرفُ قارتي أوروبا وأمريكا الجنوبية. في أمريكا الجنوبية، الناسُ مبْكرون جدًا. الحالُ مختلفً عما في أوروبا حيثُ يضَّحي الوالدان بأنفسهِما من أجلِ أبنائهما وحيث يُنهي الطفلُ – من أسرة برجوازية- طفولتَه في عمر 25- 28 عام، وهو العمر الذي يكونَ قد حصل فيه على شهاداتِه العلمية. في أمريكا الجنوبية، ينبغي للمرءِ أن يدبرَ أمرَه بسرعةٍ جدًا. لكن الأدبَ لا يقولُ الحقيقةَ أبدًا: لا علاقةٌ له بالحقيقةِ الشخصيةِ، حتى لو استخدمَ الكاتبُ تجاربَه الشخصية. كذلك أنا لم أقلْ كلَ شيء لأنني اخترتُ العلامات البارزةَ للحياة وجمعتُ فيها تجاربًا كثيرة.
د. ماجدة إبراهيم: عندما أتحدثُ عن الصراحة، أقصدُ التجربةَ الجنسيةَ التي تَعرضُها بتفصيلٍ عبرَ المراحل المختلفةِ لحياةِ الراوي المؤلف: في الطفولةِ وفي المراهقةِ وفي المدرسةِ الاكليريكية le séminaire وفي السجنِ، الخ… أنت تتناولُ أيضًا المثليةَ الجنسيةَ homosexualité. وهو الأمرُ الذي ربما لا يفعلُه الكتابُ الآخرون. وهذا أيضًا أمر مدهش إلى حد ما.
هيكتور بيانشيوتي: لا أدري لماذا ينبغي للجنسِ أن يكونَ أهم من أي شيءٍ آخر. أنا لم يكن لي أبدًا مشاكلٌ مع الجنس ولا مع مثليتي الجنسية. أنا لا أبالي. أنا كنتُ دائمًا لا أبالي منذُ الطفولة بما يمكن أن يفكرُ فيه الآخرون. عندما كان عمري ثمانيةَ عشر عامًا، علمَ صديقي أنني مثلي جنسي homosexuel، فقالَ لي: ” إن عليكَ أن تنتحرَ”. فقلتُ له إذن: ” لكنك أنتَ الذي عليه أن ينتحرَ، لأنك تعتقدُ أن علىَ أنا أن أنتحرَ”. وفي المدرسةِ الاكليريكيةِ، عندما قرأتُ بول فاليري Paul Valéry، اكتشفتُ هذه العبارة في بحثِه أمسية مع السيد تست Une Soirée avec Monsieur Teste3:
” أنا كنتُ دائمًا أًفضِل نفسي” («Je me suis toujours préféré »).
وتعرفتُ على نفسي فيها؛ ولم أفضِل نفسي بفضل قراءة هذه العبارة، ولكنني وجدتُ نفسي فيها. أنا فضَلتُ نفسي ضد أسرتي وضِدَ كُلَ شيء.
د. ماجدة إبراهيم: هذه الرواية السير ذاتية، كتبتَها بأي هدفٍ؟ أهي الرغبةُ في الاعتراف؟ أهي الرغبةُ في كتابةِ عملٍ أدبي جميلٍ تكون حياتُك مادةً جميلةَ وشيقةَ ترويها فيه؟ أهي الرغبةُ في طردِ الماضي؟ من جهةٍ أخرى، فإن كلمةَ “طرد exorciser” نفسها متواترةٌ في رواياتِك ومقالاتِك.
هيكتور بيانشيوتي: أنا لا أستهدفُ أبدًا شيئًا، ولكني أنطلقُ من ذكرى، من صورة، بالذات من صورة كطريقةِ سيرِ شخصِ ما مثلاً. كذلك أنا لا أشعرً بالحاجةِ إلى الاعتراف. والذين يعرفونني أكثر يعتقدون أنهم يجدون صورتي في الكتب. لكن ذلك ليس صحيحًا، إنه خطأٌ.
د. ماجدة إبراهيم: السيرة الذاتية والذاكرة موضوعان أساسيان في عملك. هل هما موضوعان مطابقان لذوقِ العصر؟ عندما استعرضتُ هذا العام طاولةَ الكتبِ المنشورةِ حديثًا في مكتباتِ البيع بباريس، لاحظتُ أن هذه الموضوعات هي الموضوعاتُ الأكثر تواترًا في الروايات.
هيكتور بيانشيوتي: لا، أنا أعتقدُ أنه تقليدٌ فرنسي جدًا. إنه الأديب الفرنسي/ مونتاني Montaigne الذي كان الأولُ في الاعتراف في الصفحاتِ الأولى من كتابه أبحاث Essais أنه كان سيتحدثُ عن نفسِه. إنه هو الذي ابتكرَ الخصوصيةَ في الأدب: لا في الأدبِ الفرنسي فحسب، وإنما أيضًا في الأدبِ العالمي.
د. ماجدة إبراهيم: ما العلاقةُ التي تقيمُها بين ما يرويه الليل للنهار ورواياتِك السابقة.
هيكتور بيانشيوتي: من قبلُ، كانت السيرةُ الذاتيةُ متنكرةً: شخصيةٌ ما تروي حياتَها. هنا، السيرةُ الذاتيةُ مباشرةٌ.
د. ماجدة إبراهيم: في بداية عقدِك السير ذاتي في الصفحةِ رقم 5 من ما يرويه الليل للنهار، تقولُ:
“اليوم، إنها حياتي التي تبحثُ عني” (« Aujourd’hui, c’est ma vie qui me cherche »).
ماذا تقصدُ ب ” إنها حياتي التي تبحث عني”؟
هيكتور بيانشيوتي: في كلِ الماضي، كنتُ دائمًا أؤلف كتبًا، وفقًا لملاحظتي المباشرة، ملاحظتي الحديثة. وكنتُ دائمًا أقاومُ الرغبةَ في روايةِ حياتي وجعلِها موضوعًا لكتاب. وعبارتي ” إنها حياتي التي تبحثُ عني” طريقةٌ أدبيةٌ لأن أقول إنني أشعرُ بالحاجة إلى سردِ حياتي، إلى جعلِ حياتي شخصية روائية.
د. ماجدة إبراهيم: الأدب، ماذا يُمثلُ بالنسبة لك؟
هيكتور بيانشيوتي: الأدبُ هو الفنُ الوحيدُ بين الموسيقى والرسم الذي لا يمتلكُ أداةَ. إنه لونٌ من الجزرِ الصغيرة في وسطِ اللغة. الكلماتُ تُغَني فيها. والذين يحدثونني عن الأدبِ الملتزمِ أغبياءٌ.
د. ماجدة إبراهيم: عندما كنتُ أقرأ روايتك ما يرويه الليل للنهار ، علمتُ أنك في نهاية إقامتِك في المدرسة الاكليريكية، توقفتَ عن الإيمانِ بالله. لكن موضوعَ القدر متواترً في روايتِك ويبدو أنك تؤمنُ بالجبرية. كيف يمكن التوفيق بين هذه العناصر؟ أنتَ لا تؤمنُ بالله، وعلى الرغم من ذلك، فإنك تؤمنُ بالقدر الذي يحكمُ حياةَ الناس. ماذا سيكون القدرُ لو لم يكن إرادةُ الله؟
هيكتور بيانشيوتي: أنا أؤمن بالمادة. وأنا أراقبُ وألاحظُ كلَ ما يحدثُ في الفيزياء: إن فيها منطقٌ، وأعتقدُ أننا مادةٌ وأننا جسمٌ. أنا لا أؤمن بحريةِ الاختيار التي يُعلمُها الدينُ المسيحي الذي نشأتُ فيه. وأعتقدُ أن تَسجيلَك لهذا الحوار مُقَدرً. لا يمكنُكِ تفاديه. إننا نفعلُ ما نستطيع. إننا نعتقدُ أننا نريدُ هذا أو ذاك ونكافحُ. ومن جهةٍ أخرى، فإن الجانبَ الشاقَ من الحياة هو أنْ نعتقدُ أن علينا أنْ نكافحَ، ونكافحَ مهما يكن من أمر. لكن لا يمكننُا أن نُفلتَ من القدر. القدرُ بالنسبةِ لي ليس اللهُ وإنما المادة. فأنا أجدَ أن اللهَ غيرُ قابلٍ للتفسيرِ مادام الشرُ موجودًا. إن إلهٌ يحتملُ الشرَ ليس إلهَا، لأنه عاجزً. اللهُ ليس شأني. وإذا كان اللهُ موجودًا، فسأكونُ أنا شأنَه وليتصالح معي ومع ضميره.
د. ماجدة إبراهيم: لكن الجملةَ الأخيرةَ من الكتاب (ص 274) تُعبرُ في النهايةِ عن حبٍ للحياة. أنتَ تقولُ:
“مهما يحدثُ في الشواطئ التي مازالت مبهمةً؛ فإن كلَ شيءٍ سيكونُ في النهاية وللأبد إكرامًا للحياة”.
هيكتور بيانشيوتي: إكرامًا للحياة، لأن الحياة هي التي تُهمني. كلُ شيء حتى الألم، حتى المعاناة والظلم هو إكرامٌ للحياة. الحياةُ خليطٌ من أشياءٍ رائعةٍ. إنها مركبةٌ جدًا. إننا جميعاً بالقوة مجرمون وقديسون. أنتِ في النهاية متفائلةٌ و متشائمةٌ.
د. ماجدة إبراهيم: وأنتَ، هل أنتَ متفائل أو متشائم؟
هيكتور بيانشيوتي: إنهم يقولون عني أنني متشائمٌ دائمًا. أنا لا أؤمنُ بالجنةِ ولا بالطيبة. أنا أؤمن بأننا يمكنُ أن نكونُ أحيانًا طيبين. إن وصولَنا إلى إقامةِ حضارةٍ لا يعني شيئًا. فالحضاراتُ تموتُ الواحدة بعد الأخرى. إن الناسَ يصنعون العجائبَ: هناك أبنيةٌ معماريةٌ، هناك الموسيقى، هناك الرسمُ، هناك المعرفةُ. ثم يستمرُ الناس في التقاتل. وهذا عارٌ. إذن، فإن الطبيعةَ الإنسانية َ ̶ في الحقيقة ̶ شيءٌ يتواجهُ فيه الشرُ والخيرُ، ليس في كل فرد، ولكن بطريقةٍ نسقيةٍ.
د. ماجدة إبراهيم: في الصفحة 10، تقولُ:
” أنا لا أعرفُ إذا كان كلُ شيءٍ مسموحًا به لكي يدافعُ الإنسانُ عن حياته. لكن كلَ شيءٍ، نعم، لأن يدافعَ عن نفسِه ضدها (أي الحياة)”.
ماذا تقصدُ بهذا التلاعبِ اللفظي حول فعل “يدافع”؟
هيكتور بيانشيوتي: أقصدُ أن الحياةَ عدوانيةٌ.
د. ماجدة إبراهيم: إذن، أنتَ تبرزُ الشرَ الموجودَ فينا؟
هيكتور بيانشيوتي: لا، إنها شراسةُ الحياة: الحياة بصفةٍ عامةٍ، وليست حياتك ولا حياتي.
د. ماجدة إبراهيم: السهلُ موضوعٌ متواترٌ في كتابك. في الصفحة 10، تقولُ:
“في هذا السهلِ الأرجنتيني الذي حاولتُ وصفَه أو طردَه، مراتٍ كثيرة”.
لماذا هذا الرفضُ للماضي، لماذا هذا الرفضُ للسهلِ الأرجنتيني؟
هيكتور بيانشيوتي: إن السهلَ الأرجنتيني شرسٌ.
د. ماجدة إبراهيم: دائماً في الصفحة 10 نفسها، تقولُ:
“في هذه البقاعِ، هناك، تجدُ أن محورَ العالم يتنقلُ مع كلِ إنسانٍ يمشي وأن كلَ المسافاتِ تُشعُ اعتبارًا من خطوته”.
بما يرتبط حسُ النسبية هذا؟”
هيكتور بيانشيوتي: بالمكانِ الفسيح. عندما لا يكونُ هناك تلً ولا مسافةً مرتفعةً جدًا، فإننا نظنُ أنفسنا في اللامحدود ويتنقلُ محورُ العالمِ وفقًا لكل خطوةٍ نخُطَها. أنا أظنُ نفسي محورَ العالم. ثم يتنقلُ محورُ العالمِ، عندما تكون هناك أماكنً بلا حدود، حولي. لم يكن هناك نقاطُ استدلالٍ في الريفِ الذي وُلدتُ فيه!
د. ماجدة إبراهيم: في الصفحة 62-63، قلتَ بخصوص السهل الأرجنتيني أيضاً:
” تكشَفت لي مساحاتُ ما قبل الإنسان، وكانت المسافاتُ تُطوى حول فرسي، وأمام عيني وإلى جانبي ]….[ أي نقطة في الأفق كان يمكنُها أن تعدَ بمخرج؟ كيف الوصولُ إلى مكانٍ آخرٍ؟ المكانُ الآخرُ، أنا كنتُ موجودًا في قلبه ولم يكن هناك فيما وراء: إننا لا نستطيعُ الخروجَ مما هو مفتوحٌ، دونَ اتجاهٍ بوصلي ودونَ قياس. في فتراتِ صباحِ الطفولةِ هذه، بينما كنتُ أعدو بفرسي كولورادو مدركًا أسري، شعرتُ بالحاجةِ الملحةِ إلى حدٍ، بل إلى عائقٍ”.
كيف تشعرُ بالأسْر وأنت داخلُ مساحةٍ مفتوحةٍ؟ وكيف توفِق بين هذا الإحساس بالأسْر وبين حاجتِك إلى حد؟
هيكتور بيانشيوتي: إنها لمشكلةٌ ألا يستطيعُ الإنسانُ الخروجَ مما هو مفتوحً بلا نهاية. إذا اجتزتِ الريفَ في اتجاهِ الأفق ولم تدركي ذلك الأفقَ أبدًا، فإنك تشعرين بأنك لا تستطيعين الخروجَ. وهذا هو المكانُ الآخرُ، قلبُ المكانِ الآخر نفسُه. أنا كنتُ في قلبِ المكانِ الآخر.
د. ماجدة إبراهيم: ما هي المرة الأخيرة التي عُدتَ فيها إلى الأرجنتين؟
هيكتور بيانشيوتي: في شهر أغسطس 1996
د. ماجدة إبراهيم: هل كنتَ تعود إلى الأرجنتين بين الفْينة والفْينة، قبلَ هذا التاريخ؟
هيكتور بيانشيوتي: لا، لم أعُدْ إلى الأرجنتين منذ 26 عام. فلم تكن هناك ديمقراطيةٌ وكذلك لم تكن لدي الإمكانياتُ الماديةُ للسفر. كلُ إخواني وأخواتي يعيشون هناك. نحن سبعة. عندما وصلتُ هناك كان شيئًا عجيبًا. الحياةُ كانت أجمل بكثير عن يوم رحيلي. وكانت الدكتاتوريةُ قد انتهت، والناس كانوا لطفاء جدًا. كل المهاجرين من إسبان وإيطاليين وكريول، اختلطوا ببعض: فبعدَ دكتاتورية 1967- 1983، كانوا محتاجين إلى التضامن. إنه بلدٌ وجدته مفتقرًا، ولكن متعافِ اقتصاديًا.
د. ماجدة إبراهيم: أخيراً، لي أسئلةٌ تفصيليةٌ.
في الصفحة 7، تقول: “أنا أخشى نفسي، أنا أطيعُ نفسي”.
لماذا هذه الصيغة الانعكاسية لهذين الفعلين: “يخشى” و”يطيع”؟
هكيتور بيانشيوتي: هناك دائماً في داخلنا قرينٌ، شخصً آخر. أنا أخشى نفسي، أنا أطيع نفسي، يعني أنا أخشى وأطيع هذا الشخصَ الآخرَ الموجودَ في داخلي.
د. ماجدة إبراهيم: في صفحة 64، أنتَ تصف ” سن الرشد” باعتباره
“اللحظة التي تنطمسُ فيها المعرفةُ ويبدأُ التعلمُ”.
ما الفرق في رأيك بين المعرفةِ والتعلم؟ عندي انطباعٌ أنك تُعلي من قيمةِ المعرفةِ على حسابِ التعلم.
هيكتور بيانشيوتي: المعرفةُ متعلقةً بالطفولة. الطفولةُ لا تشكُ. الطفولةُ هي الحقيقةُ. ثم يأتي سنُ الرشد. فيبدأ الإنسانُ في التفكيرِ والوعي ويبدأ ُإذن في تعلمِ ما تطلبُه الحياة.
د. ماجدة إبراهيم: في صفحة 12، تقولُ: ” كان لي روح قندس”.
هذا الطائرُ وهو القندسُ هو المشبهُ به النمطي للشخصِ الثرثار. أليس كذلك؟
هيكتور بيانشيوتي: القندسُ هو الذي يسرقُ الجواهرَ، إنه أكبرُ لص. أنا عندما أقرأُ، أجمّعُ.
د. ماجدة إبراهيم: في ماذا يرويه الليل للنهار، توجدُ في الواقع رؤيةٌ سرديةٌ محدودةٌ بالراوي الفاعل والبطل. لكن في مرتين في الفصلين 12 و58، يختفي هذا الراوي وراء غفلية anonymat ضميرِ الغائب. لماذا هذا التغير في الصوت السردي؟
هيكتور بيانشيوتي: أشعرُ غالبًا بالحاجةِ إلى أن أرى نفسي، أن أشاهدَ نفسي بدلاً من أن أتحدثَ باسمي الشخصي. أنا أفعلُ ذلك وأنا واعٍ ومدركً له، ولكن دون عمدِ. عندما أشعرُ بهذه الحاجة، أقبلُها وأستعملُها.
د. ماجدة إبراهيم: في صفحة 265، ما هو المنطق الرمزي لتمثال كريستوفر كولومبس الذي “يبحث بعينيه البارزتين في شاطئِ الأصول”؟
هيكتور بيانشيوتي: تمثال كريستوفر كولومبس هو رمزُ لكل الأرجنتين.
- سهل البامبا Pampa : سهلٌ خصبٌ مغطى بالعشب ومُجَرَدٌ من الأشجار، يمتدُ في أقاليم بلاد كثيرة من أمريكا الجنوبية منها الأرجنتين والأوروجواي والبرازيل، الخ.
- “المقبرة البحرية” Le Cimetière marin”(1920)قصيدة للشاعرِ الفرنسي الرمزي/ بول فاليري مكونةٌ من 24 مقطع وستة أبيات يصفُ فيها الشاعرُ المقبرةَ البحريةَ الصغيرةَ في مدينتٍه الأصلية “سيت” Sète، بجوار مدينة مونبيلييه Montpellier. وينطلقُ فيها من هذا الوصف إلى تأملاتٍ في الحياة والموت.
3-Bruno Vercier, « Le Mythe du premier souvenir : LOTI, Leiris », in Revue d’histoire littéraire de la France, no 6, novembre- décembre 1975, pp. 1029-1046.
4-كتاب أمسية مع السيد تيست Une Soirée avec Monsieur Teste (1896): بحثٌ للشاعر الفرنسي الرمزي/ بول فاليري يعبرُ فيه عن اهتمامه بانفصالِ الروحِ عن الإحساس. يحذو هذا الشاعر في ذلك حذو خطاب المنهج Discours de la méthode للفيلسوف الفرنسي/ ديكارت Descartes