ثلاث سنوات تُشرع الأبواب لنسائم الحرية – سمير البكفاني
الحملة الفرنسية تُشرع الأبواب لنسائم الحرية
ثلاث سنوات تُشرع الأبواب لنسائم الحرية
سمير البكفاني
منذ اللحظة الأولى، وبروح المؤرخ الموضوعي الراغب بالمعرفة، واليقظ لما يدور حوله من أحداث؛ أحس المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أنه بإزاء حضارةٍ جديدة أرقى من حضارة الترك والمماليك، لا في مقوماتها المادية فحسب، بل في كثير من قِيَمِها الاجتماعية ونظمها السياسية. بعد أن رأى حملة نابليون بونابرت على مصر 1798-1801م، كأول احتكاك مباشر بين الغرب والعرب، في العصر الحديث، التي تزامن مجيئها بعد حوالي عقدين من عمر الثورة الفرنسية (1789م)، والتي أوقدت شعلة الحرية في أوروبا؛ وأضاءت بشعاعها ظلمة العالم أجمع، وكانت بالنسبة لـ مصر، أي (حملة بونابرت) بمثابة العاصفة التي حطمت الأسوار العالية، وأزاحت السياج المنيع الذي وضعه العثمانيون حول مستعمراتهم العربية؛ ليحولوا بينها وبين أنوار العالم الخارجي. ولم تكن العزلة التي فرضها الاحتلال العثماني على الولايات العربية الخاضعة له، سياسية واقتصادية وحسب، بل كانت حضارية أيضاَ، حرمت المنطقة من وصول أيّ عنصر من العناصر المُكَونَة للحضارة الغربية، التي كانت تسير بخطى سريعة في طريق التقدم ما بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر.
إذن، كانت تلك الحملة، هي من كسرت الحواجز، وحركت المياه الراكدة؛ وأثارت حراكاً فكرياً وسياسياً، بما أدخلته من تنظيمات سياسية أعلنها بونابرت، حال دخوله القاهرة، بعد انتصاره في معركة امبابة، والتي كان من أهمها الديوان العمومي المكون من ستين عضواً وهو أول مجلس نيابي عرفته مصر في العصر الحديث.
برز في هذه المرحلة إلى جانب شيخ المؤرخين عبد الرحمن الجبرتي، كل من الشيخ حسن العطار، والشيخ إسماعيل الخشاب، الذين جمعتهم ردهات الأزهر في ذلك العصر، عصر الثورة الفرنسية، وأن يعاصروا مجيء نابليون بونابرت إلى
مصر، وأن يتقلدوا أرفع المناصب في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ مصر والشرق العربي عموماً. فالأول عُين وزيراً، أو عضواً في الديوان كما كان يسمى في ذلك العهد. والثاني عُين شيخاً للأزهر فيما تلا ذلك من سنوات. والثالث كان سكرتيراً لمجلس الوزراء في عهد الحملة الفرنسية. وقد قدر لهم أن تقترن أسماؤهم بوصفهم واضعي الفكر المصري الحديث، والممهدين لانتقال العقل المصري من ظلام العصور الوسطى إلى نور عصر الأنوار المنبثق من أفكار الثورة الفرنسية.
الجبرتي بتاريخه العظيم”عجائب الآثار في التراجم والأخبار”; والعطار والخشاب بدعوتهما إلى ضرورة الأخذ بالعلوم العقلية والوضعية، حيث كان الفكر من قبلهم يكتفي بالعلوم النقلية وعلوم الدين. باختصار، كان هؤلاء الثلاثة هم أول من وضع
أساس الفكر والعلوم الإنسانية في مصر والعالم العربي.
كان هدف الحملة الفرنسية، والتي جاءت من أجله؛ هو ترسيخ نفوذها في مصر، والتحكم في الطريق الهام لقوافل التجارة، التي تربط بين أوروبا والهند، (عبر مصر) وقطع الطريق على الإمبراطورية البريطانية -جارتها اللدود- وتجارتها المزدهرة هناك.
لكنها، وبنفس الوقت، حملت معها إلى المصريين؛ خطاباً حضاريا، يعبر عن احترام الفرنسيين للعقائد الدينية، والاجتماعية، إضافة لما أدخلته من إحداث تنظيمات وبنى سياسية، سيكون لها كبير الأثر على تطور الحياة السياسية والثقافية، ولاحقاً على بناء الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي باشا.
ومن هنا، لابد من الإشارة الى بعض النتائج التي ترتبت على مجيء الحملة إلى مصر، إضافة إلى ما تمت الإشارة إليه أعلاه:
أولاً – كانت الحملة سبباً مباشراً، بإرسال السلطان العثماني، قوة عسكرية لمقاومة الفرنسيين بقيادة الضابط الشاب محمد علي ذو الأصول “لألبانية” والذي سيلعب بعد ذلك دوراً بارزا في تاريخ مصر، وبناء الدولة الحديثة، والذي استمر حكمه ومن بعده، أسرته على مدى مئة وخمسون عاما، حيث تنازل أخر ورثته (الملك فاروق) عن الحكم، على أثر حركة الضباط الأحرار سنة 1952م.
ثانياً- القضاء على حكم المرتزقة المماليك؛ وتخليص مصر، والمصريين من استبدادهم وشرورهم، والذين استنزفوا خيرات البلاد، وتعب وعرق المصريين، على بناء القصور، وحياة البذخ، واللهو، والفجور.
ولم يُخفِ محمد علي اعجابه بما رأى، مما أتت به الحملة الفرنسية، من قيّم الحضارة الغربية، وقوتها العسكرية والعلمية.
رآها، كما رآها غيره، من العلماء والمفكرين المصريين، الذين رأوها، غازية فاتحة، كما رأوها، مجددة في حياة المصريين، ورأوها بعد ذلك تنتصر وتنهزم؛ حتى جمعت عتادها ورحلت عن أرض الكنانة مهزومة عسكرياً، منتصرة حضارياً؛ إذ أنها بذرت من البذور ما بقي في أرض مصر أجيالاً. وكان، من ثمرات ذلك، البعثة العلمية – الكبرى الأولى (1826م) التي بدأ بها محمد علي سياسة الانفتاح على أوروبا؛ والتي كان من أهم ما حملته، قرار إلحاق أسم الفتى رفاعة رافع الطهطاوي، الذي تخرج لتوه من
الأزهر، وعمره لم يتجاوز بعد الخامسة والعشرين عاماً، بقائمة المبعوثين، بتزكية من أستاذه الشيخ حسن العطار (شيخ الأزهر)، الذي زيّن لمحمد علي باشا والي مصر، من أجل أن يكون للمبعوثين إماماً، يبصرهم في باريس بأصول دينهم، وأن
يكون رفاعة هو الإمام، والذي سيلمع أسمه، بعد عودة البعثة كرائد من رواد الفكر الحديث. (وهذا ما سنأتي على ذكره في سياق آخر).
وفي الختام:
هذه التنظيمات السياسية والتقاليد الدستورية، والتي أتى الجبرتي على ذكرها وتدوينها، تحولت إلى رسالة كاملة عن الحضارة الحديثة، والنزعة القومية والوطنية في آن واحد. فلم تكن رسالة الغرب إلى الشرق فحسب؛ لكنها تفاعل خلاق بين
الفكر المادي الغربي، وفكر الشرق الروحي العريق.
فقد دلت أغلب البيانات التي صدرت عن الشيوخ والعلماء أعضاء الديوان العمومي، انهم اشترطوا العمل بجملة مبادئ أساسية للحكم واستخلصوا من بونابرت تعهداً بها، وهي احترام الدين، وعدم المساس بأحكام الشريعة وإقامة العدل وإلغاء مظالم
المماليك.
جاءت الحملة الفرنسية إلى الشرق بأكثر من مئة ألف جندي، فلم يبق منها سوى الأثر الثقافي والحضاري، أما الجانب العسكري لتلك الحملة فقد ذهب مع جيوش نابليون عندما انسحبت ذات ليل في العام الأول من القرن التاسع عشر. لم يبق سوى المطبعة، التي أحضرها معه، وأصداء اكتشاف (شامبليون) لـ حجر رشيد على الحضارة العالمية.
لذلك، كانت الثلاث سنوات التي مكثتها الحملة الفرنسية في مصر؛ كافية لأن تحطم الأسوار، وتشرع الأبواب لنسائم الحرية والتقدم، وتُخرج مصر من عزلتها، وتطوي صفحة أكثر من ستة قرون، من عهد المماليك والعثمانيين، والتي لم تجلب سوى
الجهل والفقر، والذل والمجاعة، وخراب الأوطان!
*- حزيران/ يونيو 2022