تنمـُّـر معكوس – خالد نعمة
تنمـُّـر معكوس
خالد نعمة
عادة، وكما هو شائع، فإنَّ أبناء المدن ينظرون نظرة فوقية إلى أبناء الريف لا مبرَّر لها، رغم أنـَّـه قبل أنتو يتمدَّن هؤلاء كانت الأرياف مسقط رؤوسهم، أو منبتاً لسلالاتهم التي يرجع أصلها إلى القرى والبوادي.
وفي هذا المجال يمكن للمرء أن يسترجع إلى ذاكرته قصص أهل الشام عن الحوارنة، ونكت سكان دير الزور عن الشوايا، وكثير غيرها من قصص قاطني المدن مع جيرانهم من ناس تعيش في قرى ودساكر وبلدات صغيرة ملاصقة أو بعيدة بعض الشيء.
لكن لكلِّ قاعدة استثناء، وبضمن ذلك مسألة التنمـُّـر الآنف الذكر. وهنا سأسوق قصة غابرة كنت أنا البطل الضحية فيها.
عندما يسألني أحد ما عن انتمائي المناطقي، فإنني أجد صعوبة في تحديد هذا الانتماء، فقد سقط رأسي في بيروت، وأبي مشتاوي، وأمي ديرعطانية، وأنا نشأت وترعرت في حارات الشام المختلفة، التي لا أعرف عدداً دقيقاً للمرات التي تنقل سكننا بينها. لذلك، صرت ناطقاً بلغة بيضاء بعيدة كل البعد عن لهجة منطقة بعينها، لهجة أقرب إلى فصيح الكلام، حتى عندما يتعلق الأمر بعاديات الحياة اليومية، وكان لهذا الأمر ضريبته في الطفولة.
اعتاد أهلي أن يأخذونا أو أن يرسلونا إلى بيت جدِّي في ديرعطية أيام الأعياد وخلال عطلة الصيفية وذلك لسهولة الوصول إليها من دمشق أواخر سنوات ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته، وكان أقرب جيران أهل أمي إليهم هم آل (السوسو)، الذين كانت دارهم في مواجه دار جدِّي، وكانت عائلتهم زاخرة بالأطفال من مختلف الأعمار، أطفال ملأوا الحارة بهرجهم ومرجهم ولهجتهم الديرعطانية المميـَّـزة منذ الصباح الباكر إلى حين مغيب الشمس، وقد شكـَّـلوا كانتوناً مغلقاً طفولياً غير قابل للاختراق من الوافدين الغرباء أمثالي، مهما حاولوا واستماتوا للانضمام إلى عصابة الشقيان أولئك.
واحدة من عوامل الفرقة التي جعلت التلاقي غير ممكن كان اختلاف اللهجات، فاللهجة الديرعطانية ينبغي أن يرضعها الطفل مع حليب أمه، وأمي أصلحها الله فطمتني باكراً، وعوَّضتني عن حليبها بحليب البقر، وفي بعض أيام العز بحليب النيدو. وهذا ممـَّـا جعل تطويعي لتلك اللهجة أشبه بمهمة مستحيلة لا يقدر عليها حتى توم كروز ذاته، مع أنه بطل أفلام ذائع الصيت.
وبناء عليه، فقد كانت لهجتي ولكنتي الغريبة عن مألوف الأطفال الدراعطة في ذلك الزمان مدعاة لسخريتهم وتندرهم، وسبباً وجيهاً لرفض الصداقة بيننا.
لكن ليس هذا أصعب ما في المسألة، فالصعب قد وجده أحد النبهاء بين تلك المجموعة، إذ تفتقت عبقريته عن عبارة قدح وذم شديدين تشبه في مفعولها مفعول التهديد البوتيني باستخدام السلاح المنوي، فقد كان يعلم أنـَّـني من سكان الشام، أي دمشق، ولذلك فقد ألـَّـف عبارته تلك، التي جاءت على منوال الثالوث المقدَّس وفيها آب وابن وروح قدس، وقد تألفت تلك العبارة من كلمات ثلاث لا رابع لها، وقافيتها ياء، ومغنـَّـاة، وتقول بالحرف: (الشـَّـامي فصـُّـه حامي).
كانت شلة الأولاد الزعران هذه، التي كنت أتوق إلى اللعب معها، تحيط بي على شكل دائرة حين أنسلُّ إلى (حارة فلسطين) بين الدارين، وتأخذ بترديد هذه العبارة على كل المقامات الموسيقية، إلى أن أملَّ من سماعها، ولا تسعفني مقدراتي في الرد عليهم، فأشدُّ رحالي مغادراً هذا الوسط الموبوء بصغار النمور، ولائذاً بدار جدِّي حيث الأمن والأمان وكتب الكبار في مكتبة الحائط داخل غرفة الضيوف.
مضت عشرات السنين على تلك الواقعة السوداء، ولم تبرح مخيلتي هذه العبارة الثلاثية الكلمات، وما زلت أسأل نفسي إلى الآن: هل يوجد فصٌّ بارد يا ترى،أم تستوي فصوص كل البشر من حيث سخونتها؟
ولأنني بدويٌّ لا يسكت على ضيم، فإنني أسألكم برب الكعبة، كيف يمكن لي أن أرد الصاع ثلاث صاعات وبثلاث كلمات مقفاة لأولئك الأوغاد، بحيث أجعلهم بعد هذا العمر يدبـِـرون دون أن يلووا على شيء.
مقالات ذات صلة