انشطة ثقافية

تسريد السيّرة ..التخييل وتعدّد الرواة

رواية 'أسد القفقاس'

تسريد السيّرة

تتضمن حكاية رواية السيرغيرية “أسد القفقاس” لمنير عتيبة كفاح المريدين من شعب القوقاز ومجالدتهم للقهر والظلم في داغستان في القرن التاسع عشر ضد الاستعمار الروسي، بقيادة الإمام شامل بين (1834 – 1859)، الذي كان له مريدون كثر وأصدقاء مميَّزون.

كان والده فلّاحًا، وأمّه ابنة سيد الآفار، اتّصف بالقوّة والتقوى، طوله 190 سم، وتميَّز بلباسه الأبيض والأسود وبالعمامة الحمراء، لُقِّبَ بأسد القفقاس وصقر الجبال. درس العربية والفلسفة والفقه على يد أستاذه جمال الدين وتعمَّق في الصوفيّة. بعد أن أسره الروس، سمح له بأداء فريضة الحج فانتقل مع أسرته إلى المدينة المنوّرة، توفي فيها، ودفن في مقابر البقيع المقدّسة.

كشفت حكاية النصّ عن إرادة المريدين الصلبة وبراعتهم في القتال والتزامهم بأخلاق الدّين الإسلاميّ، ثمّ ركّزت على جرائم الجيش الروسي من حرق بيوت المسلمين والغابات وقتل الأهالي والتنكيل بهم إضافة إلى إعمال التفرقة والفتنة بينهم؛ كما حدث في معركة غيمري التي مات فيها صديق شامل الإمام غازي مولا، ونجا شامل بعد أن جرح جروحًا بليغة، فاختير حمزت بك إمامًا ثمّ اغتيل في مسجد هونزا، فوقع الاختيار على الإمام شامل، فأعاد تنظيم قوات المريدين بشكل حديث، وحاول بناء دولة فنظَّم البريد وجمع الزكاة لتجهيز قوات المريدين، تزوّج من شعينات، واستمرّ بقيادة الكفاح حتّى تمكّن الروس من أسره. دأب على العدل والمساواة مرتكزًا على المنهج الإسلامي في شؤون الحكم. وتضمنت الحكاية ما كان يحدث في الضفّة الأخرى عند الروس وأعوانهم.

تبدو أحداث النصّ، للقارئ، مستمدّة من التاريخ، ولكن عند الولوج بقراءتها يَكتشِف تمكّن الكاتب من إبراز العالم الذاتي لشخصية البطل ومن تحديد موقعه في العالم، ويكتشف أيضًا تكثيفه لفعل السرد بعلاقات وجدانية نسجها شامل مع ابنه وأزواجه بصفته بطل العمل السردي، ثمّ كشف عن أسباب هزيمته مع مريديه، محدّدًا ملامح ضعف أهله وشعبه وبعض الخيانات التي أكسبت عدوّهم قوّة، لا سيما سلوك الشخصية المعيقة لحركة البطل الحاج مراد؛ وبهذا يعرف القارئ أنّ عتيبة بحث عن الحقائق المخفيّة والهاربة لدى شخوص عمله، مما ساعده بمنح نصّه عالمًا تخييليًّا.

 


وأعاد عتيبة صياغة واقع مجتمعيّ انقضى ذاكرًا العيوب النسقية المجتمعية وقتذاك الممتدة حتى زمن كتابة نصّه السرديّ؛ مدركًا أهميّة تحميل النصّ مقولات لدفع الذات نحو بناء فاعليتها الاجتماعيّة والسياسيّة ضمن سياق بيئتها الإسلاميّة؛ لقد تمكّن الكاتب من إدخال القارئ بمغامرة نصيّة استمدّت مادتها من التاريخ مناصيًّا، فمنحه فرصة التعرّف على تجربة جديدة في عالم متعة السرد التخييلي، من دون أن يتنكّر لتاريخ هوية ثقافيّة جمعية صيغت وسط معاناة أهلها وكفاحهم على مدى مئات السنين، فكرّس بذلك معاني تتعلق بالوطن والحرية والاستقامة والحبّ والشجاعة.

نظّم عتيبة حكاية روايته وقصّتها على نحو بارعٍ، إذ تمكّن من تحويل السردية التاريخية إلى نصّ روائي سيري غيري، موظّفًا الانتقالات السرديّة في الزمان والمكان، ومضفيًّا عليها تخييلًا متناغمًا مع ما هو مرجعي تاريخي؛ فقد وظّف تقنيات نصّه السرديّة من خلال استعادة واستنطاق شخوص عمله المجسّدة لأحداث متخيّلة ماضيًّا، فضبط حركتهم وأورد شهاداتهم المتنوعة بصفتهم رواة الحكاية، الكائنات الورقيّة التي تخيّلها الكاتب، وربما صاغ بعض أحداث نصّه وشخوصه تناصيًّا مع رواية تولستوي الحاج مراد، إذ ذكر اسمه صريحًا، ولكن بما لا يتعارض مع حقائق التاريخ وواقعيّة ما تخيّله من أحداث وشخصيات ومواقف، بل حرص على خلق انسجام في نصّه بين لغته وحكيه وحواراته وخطابه وموضوعاته وصفات شخوصه، فبنى معمارًا متجدّدًا من خلال تعدّد الرواة الذين سردوا حكاياتِهم مبتدئًا بكريمة، ابنة شامل، التي روت نهاية القصة في أيامه الأخيرة في مدينة رسول الله، إذ كان يهمس بإذنها، وهو يرى عشرة آلاف قدّيس جاؤوه من مقابر البقيع المباركة إلى غرفته منتظرًا انتقاله للعيش معهم في نعيم الآخرة؛ كانت كريمة متيقّنة من حلول أرواح الصحابة والتابعين حول أبيها الذي كان يأمل أن يسلّم روحه لخالقه مطمئنًا بينهم.

منذ البداية ترك الكاتبُ القارئَ أمام سؤال: من هو شامل الذي يعي لحظة مماته أمام ابنته؟ من هو الذي عنونت الرواية بلقبه (أسد القفقاس)؟ وما علاقة المدينة المنوّرة بالقفقاس؟ من هو بطل الرواية المشكّل من دخان وغبار؟ ومن هو ذاك الكائن الطويل الذي يحمل سيفه صارخًا بين جنود مبهورين به: “لا إله إلّا الله”؟ من يكون البطل، وما الحرب التي خاضها؟ إذ أضاف الكاتب على الصفحة الأخيرة: “كانت لحظة غير عاديّة في حرب خطيرة. دار ببال البعض أنّه شبح. وعندما استعاد الجنود أنفسهم، كان بعضهم قد طارت رأسه فعلًا. وكان شامل قد اختفى”، هل شامل من الأشباح حقًا أو ملاكًا أرسله الله؟ أسئلة متزاحمة دفع بها المؤلّف منذ عنوان روايته وعلى الصفحة الأخيرة أمام القارئ، تُرى هل يموت من هو بهذا المقدار من البطولة؟ وكيف؟ أسئلة أضافها مع اللوحة الأولى من النصّ إذ بدأت ابنته كريمة سرد أحداثٍ وقعت في المدينة المنوّرة، وبعد أن قدّمت له كأسًا من الماء رأت على صفحة وجهه جبال داغستان الشامخة وغاباتها التي عشقها، ثمّ أيقنت أنّ أرواح الصالحين من سكّان مقبرة البقيع كانوا في غرفته.

في اللوحة الثانية، يعيدنا الكاتب إلى يوم ولادة شامل، والراوي ليس ابنته، بل أبوه الذي يسرد قصة ولادته عام 1797، وتحوّله إلى راعٍ أمين في مراعي داغستان، ومن جديد برع الكاتب بتقديم والد شامل الذي بسمل وكبّر عند ولادة ابنه، ثمّ أشهده على مغادرته وانضمامه لجيش المريدين، ليترك القارئ من جديد أمام سؤال كبير من هم هؤلاء المريدون؟ فكان الجواب في لوحة فنيّة جديدة على لسان راوٍ جديد هو صديق شامل، عندما كان راعيًّا للغنم، إنّه كوناك، روى كيف نشأ إلى جانب شامل تحت أقدام جبال داغستان إلى جانب الأغنام بداية، ثمّ صارا تلميذين للشيخين سعيد الهركاني ومحمد أفندي البراغي ثمّ متوحدّين مع الطبيعة، إلى أن التحقا بالمريدين.

ماذا جرى لهما هناك، سؤال يرتديه القارئ ليتابع كوناك بالإجابة باسم آخر هو الغازي مولاي محمد الذي يعيدنا إلى تاريخ المقاومة الداغستانية ضد الروس عندما قتل الشيخ منصور منذ سنة 1794، صاحب قول: “حريتنا هي أثمن ما نملك، وديننا هو جوهرة تاجِ حريتنا” ليتابع دربه الغازي مولاي محمد، ثمّ روى كيف كان معتمدًا على شامل وحمزت، وكيف تلقى رصاصة في صدره بعد صمود أسطوريّ لم يبقِ إلّا عليه وعلى أربعة معه، فطلب من شامل النجاة بنفسه، فنجا، مع اثنين من المريدين.

ثمّ دفع الكاتب القارئ للمتابعة، فيقرأ لسارد جديد هو حمزة بك جانقا، الإمام الثاني الذي تسلم قيادة المريدين بعد اختفاء شامل الذي وجدوه جريحًا؛ يحكي حمزة عن الحاج مراد وعثمان اللذين غدرا به وبالمريدين في المسجد، فتمّ لهما قتله مع أصلدار، ونجا شامل بعد أن قتل عثمان. سؤال جديد أمام القارئ، من هو الحاج مراد المتعاون مع العدوّ الروسي؟ فلم يبخل الكاتب بالجواب ليجعله ساردًا آخر، فحكى الحاج مراد عن نفسه، كان معاديًّا للمريدين المتزمتين الذي يكفّرون الآخرين، ومتخوّفًا من الأتراك، وغير واثق بقبائل القوقاز المتفرّقة، فوقف بمواجهة المريدين حتى أسهم بهزيمتهم وجعلهم ينسحبون إلى الجبال مع شامل الذي: “كان يلعق دماءه كذئب جريح”.

يوقف الكاتب سرد أحداث داغستان ليقدّم سرديّة صغيرة في موسم الحج، إذ يفاجئنا بالأمير عبدالقادر الجزائري ساردًا للقائه مع شامل بالقرب من الكعبة الشريفة، فتبادلا الحديث عن محنة القوقاز بين العثمانيين والروس والفرس، ومحنة الجزائر بين العثمانيين والفرنسيين، ويسمع من شامل قوله: “الله والحرية هي الأنفاس التي يعيش بها شعبه” ولكن عبدالقادر يستعيد ذكرياته عن الخونة والتمرّد والظروف المتشابهة بين الجزائر وداغستان، حيث الخيانات والجيوش الحديثة التي تقضي على المقاومة من أجل الحرية.

يعود الكاتب في لوحة جديدة إلى داغستان، فيروي الفقيه المجتهد زغلو الخَرَشي قصة إعلانه البيعة لشامل التي رفضها بعض الداغستانيين، فبايعه الجميع من بعده، ثم أطال الدعاء لشامل حتى غاب العالم من حوله، وعندما صحا كان نشيج شامل يصل إلى كل من كان بالمسجد إمعانًا بالتقوى. ثمّ يتساءل القارئ: ما الذي حلّ بالحاج مراد المتعاون مع العدوّ الروسي بمواجهة هؤلاء الأطهار من المريدين، فيدفع الكاتب به، ليروي عن الفسق الذي طال الضباط الروس وأعوانهم، وكيف خاض مواجهة مع الروس وانتهت بأسره، ثمّ بهروبه بعد أن صار أعرج، وروى صراعه مع أحمد خان وتحالفه مع شامل في سنوات انتصاره على الروس، حتّى عودته للمعسكر الروسي بعد تخوّفه من غدر شامل ومحاولة هربه لتخليص أسرته من أسر شامل لكلّ أفرادها، ثمّ أُسِر من جديد، بعدما طُعِن بخنجر أخيه بالعهد آغا بن المخنولي، ويتساءل أخيرًا: هل كان شامل على حقّ؟

يتفاعل القارئ مع السؤال ويتابع لمعرفة الإجابة، فيستمهل الكاتبُ القارئ في تلقي الإجابة، ويبطئ السرد مقدّمًا لوحة جديدة وساردًا آخر هو إسماعيل المغنّي لحب الله، فيصف عفة النساء والطبيعة، كما يوظّف تقنية الخطف خلفًا، فيستذكر المغنّي شاملًا، عندما كان طفلًا في حضن أبيه، كان شغوفًا بشعره وربابته، ثم يجد شامل مقررًا صمت الشعراء، فيواجهه، ويرفض الصمت، لأنّ الشعر هو الحياة على حقيقتها، فيعطي شامل أمره بمتابعة غنائه لوحده من دون الشعراء الآخرين، كمستبدّ يصدر الأوامر، ثمّ أصدر أوامره على جميع العلماء والشعراء أن يعيدوا كتابة المخطوطات التي أغرقها الروس في بحيرة كازان.

ينقلنا الكاتب إلى الجانب الآخر، إلى تورناو المترجم الروسي المعجب بشامل، الذي لم يقع بالأسر إلّا بعد أن حقق انتصارات كثيرة على الروس، ويبدأ بحكيه عن شعب القوقاز العنيد والحر والمقاتل الذي استمد سماته من الجغرافيا والإسلام، ويحكي عن جرائم الروس بحق أهل القوقاز، شهادة روسيّ كان في بؤرة الأحداث موظّفًا شعرًا لبوشكين وغيره لوصف قوتهم، ثمّ تحدّث عن القيصر إيفان الرهيب الذي اقترن بالشيشانية ماريا، ثم أفاض بالحديث عن شامل الذي راقبه عشر سنوات في قفصه قرب موسكو، بعد أن كان سيد الغابات والجبال، كما يحكي عن صفات شامل وعفوه عن الجنود الأعداء عند المقدرة على قتلهم، وعن وفائه بوعده، وأنّه بعيدٌ عن أساليب الخيانة. ثمّ تنتهي هذه اللوحة بسؤال عن الجنرال الروسي الموسوم بالخيانة، فيصف سلوكه اللاإنساني.

يعود بنا الكاتب للشاب المسلم علي، الشاهد على بطولات أهله وإمامه في مدينة كمره بمواجهة الروس، والتجاء الإمام شامل إلى حولكه وهو جريح، بعد أن نفد الطعام بظل حصار قاتل دام ثمانين يومًا، ويخبرنا كيف أن شعينات زوجة الإمام، قادت بعض النساء اللواتي شاركن بالمعارك، كما أنّ أخته فاطمة أول من ألقى بنفسه من فوق جرف، حتى لا تقع أسيرة بأيدي الروس، وحكى عليّ عن عشرين مريدًا قاتلوا حتى الموت، ولم يرد الإمام الهرب، على الرغم أن علي أشار عليه بذلك، ولكن بعد أن أطبق الروس على كلّ شيء وصل شامل إلى أحولكه، وهو مصاب بكتفه وابنه غازي محمد برجله، ثم ساروا في الجبال حتى أنقذهم شاب وأطعمهم، التقى شامل مع الشيشان، فبايعوه ليبدأ بالتفكير لإقامة دولة لمقاومة الروس.

ثم يبرز سؤالٌ عن شعينات زوج الإمام التي قاتلت الروس مع المريدين، سؤال يحمله القارئ معه من اللوحة السابقة، لتبدأ بسرد قصتها بنفسها مع عصفورها الجبليّ، هي ابنة أمير مزدك، أميرة لم ترض بكلّ من تقدّم لخطب ودّها من الأرمن أو الروس أو سواهم، كانت تبحث عن رجل حقيقيّ، عن فارس أحلامها، غير الموجود بعد، ولكنّها بعد أن كانت تتأمل قمم الجبال حطّ عصفور على كتفها، وصار صديقَها، ثم تحكي عن قصة أسرها بأيدي القوقازيين، وكيف كفّت عن الانتحار بوجود الشيشاني، ولم يكن ذاك الرجل سوى شامل الذي كانت تكرهه وتمقت ذكر اسمه، ولكنّها وثقت به عندما عاملها كأميرة بوجود عصفورها الجبلي الذي حطّ على كتفه، بعد أن فقأ أعين من حاول مسّ كرامتها بسوء، وعندما طلب منها أن تكون زوجته رفضت بشدّة، وطلبت الموت، فلم يبد شامل غضبًا اتجاهها، إلّا أنّ عصفورها غرّد بالقرب منه مشيرًا لها بالقبول، فقبلت به زوجًا برفقة عصفورها، وبعد أن أسلمت، رفضت العودة مع أخيها، وارتعبت من قبول شامل لمبادلتها بأسرى ومال كثير، ولكنّ أخاها أخبرها بعدم قبول شامل لأي عرض لردّها، ثمّ أخبرت أخاها بحبّها لشامل، وأنها لن تتخلى عنه، ثم تختم بوصيتها أن تدفن بجانب فارسها شامل الذي يحمل “قلب الأسد وجرأة الصقر وبهاء قمر وحنان عصفورها الجبلي”.

لوحة جديدة، قدّمها سارد آخر، إنّه الحاج يوسف حسين الذي استلم رسالة من شامل بن ذكاو فطلب من محمد علي باشا في مصر أن يقبل استقالته من عمله، رغبةّ منه بإعانة المريدين في داغستان، قبلها منه محمد علي باشا، وطلب منه إبلاغ شامل أنّ قلبه معه، وسيقدّم له العون، وعندما قابل يوسف شاملًا، وعرف أحلامه وسط تردي أوضاع بلاده، أشفق عليه، ولكنه ساعد في إنشاء الجيش النظامي والتصنيع والتنظيم الحديث، ثمّ حقّق شامل عشرات الانتصارات على الروس، كما ذكره رئيسًا لوفد القفقاس في مؤتمر الصلح بباريس.

ثمّ يروي يوسف الكمري شهادته عن أهل كمره، بلدة شامل، الذين تخلّوا عنه وعن المريدين، وساعدوا الجيش الروسي للقضاء عليهم، لأن شامل كان يطبّق عليهم الشريعة، ليمتثلوا لما جاء في النص، كان يقطع يد السارق ويقتصّ من القاتل ويجلد ويرجم الزاني.

يعود الكاتب بالقارئ إلى أيام أسر شامل، ويدع تورناو الذي حضر حفلة جالس فيها القيصر الروسي والجنرال بارياتنسكي وشامل على طاولة واحدة، يدعه يصف أبهة المكان، وأجواء الفودكا باستثناء شامل الذي كان يرتشف ماءً على مهل، ثم يذكّر بكيفية انتصار الروس على المريدين بقيادة الجنرال بارياتنسكي، بعد أن اقتلع أشجار الغابات، التي كان يلجأ إليها المريدون، ثم يصف دفاع المريدين الأسطوري، إلى أن استسلم شامل من أجل من يحارب معه رافضًا تسيلم سيفه إلّا للجنرال الذي هزمه، ليسدل الستار على الحدث المأساوي الذي أعقبه استعراضًا عسكريًّا اقتادوا من خلاله شاملًا إلى موسكو، ووصف تورناو احتفال القيصر بالأسير شامل، الذي أمر بإقامته بقصر، ووصف استقباله له في مأدبة طعام فاخرة ناقلًا أمنية شامل بأن يكون الأمر معكوسًا، لو كان القيصر ضيفًا على مائدة شامل، فأهمل القيصر الردّ عليه، وأظهر فرحته بانتصاره.

يكمل تورناو شهادته عندما كان شامل في كالوكة أسيرًا حيث أكرم وعين له مترجمان، وراتبٌ مرتفعٌ، وخُيّر في اختيار القصر الذي يريده منزلًا له ولأسرته، ويصف شاملًا وهو يخاطب الأشجار والزهور رافضًا أطباق الطعام المصنوعة من الذهب، كما يذكر الأطباء المعالجين لأسرته، ثم يصف زيارته إلى القيصر والحفاوة التي تمّ استقباله بها، مؤكّدًا أن القيصر لم يرد قتل أسيره، لأنّه لا يريده أن يتحول إلى رمز للمريدين. وستمرّ تورناو المترجم بالحديث عن رائحة خاصّة لشامل، وينقل حواراته معه، وذكر أعداد قتلى الروس وخساراتهم الكبيرة، ثمّ ينقل رأي شامل وإيمانه بأن الحرب لن تتوقف بين الشيشان والروس، لأنّ دين الإسلام هو الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه، وأن شامل كان يقاتل من أجل حرية شعبه، أما الروس فمن أجل مجد الإمبراطورية وتوسّعها. ثم ينقل مناجاته لنفسه عن جحود ونكران أهل بلده له.

يعود الكاتب بالقارئ إلى حيث بدأ، كريمة ابنة شامل بجوار قبة العباس، عندما أصرّ عليها أبوها أن يذهب إلى الروضة الشريفة في المدينة المنوّرة، ثمّ ابتهل إلى ربّه ليميته ويحشره في زمرة الصالحين، كان ذلك عام 1871، العام الذي مات فيه شامل، فشيّعه أهل المدينة، ودفنوه بجوار قبّة العبّاس عم الرسول، بكت كريمة، وصارت تزور قبره كل يوم، ثم لاحظت أن عصفور شعينات الجبلي كان يزوره من مثواه بالجنة.

وصل عدد الرواة إلى الثلاثة عشر ساردًا، حرص (عتيبة) أن ينوّع من مواقعهم ووجهات نظرهم، فمنهم قادة للمريدين وآخرون معادون لهم ولشامل، إضافة إلى سرديات الضباط الروس، وصولًا إلى رواة عاشوا داخل قصر القيصر الروسي. ولكن ما مكانة نصّ عتيبة السردي فنيًّا وجماليًّا بحسب تابعيته التجنيسية؟ أهو رواية تاريخية أم سيرة غيرية أم تخييلٌ سيري أم تأريخ؟

يختلف التخييل السيرذاتي أو الغيري في تقنياته السردية عن الرواية التي تشترط خلق شخوص وأحداث تخيلًا بالنظر إلى المسرود ارتكازًا على الخيال الشعري، أما التخييل السيري فيهيمن على المسرود الجانب المرجعي على التخييلي، بحيث يسمح بالانطلاق من وقائع حدثت فعليًّا لأشخاص عاشوا ماضيًّا أو حاضرًا. وفي كلّ الحالات، بما فيها السيرة الذاتية بصفتها نصًّا أدبيًّا، فإنّ الكاتب لابد له من تقديم خطابٍ يحمل تجربة جماليّة ومعرفيّة وسلوكيّة جديدة وتأويلًا للواقع المعالج؛ زارعًا بذور وعيّ جديد للمستقبل.

وإذا كانت تقنيات السيرة تشترط الالتزام بالوقائع وبأسماء الشخوص، ولا تسمح لكاتبها التمادي بالغوص في عالم الخيال الشعري، فإنّ نصّ أسد القفقاس تجاوز كونه سيرة غيرية، إذ عالجه الكاتب سالكًا دربًا إبداعيّة، فشيّد بناءً سرديًّا تخييليًّا، وإن كان قد التزم بالزمن التاريخيّ للأحداث، وبأسماء الشخصيات التي عالجها؛ إلًا أنّه أضفى على فضاء مسروده تنوعًا مكانيًّا انسجامًا مع أفعال شخوص روايته المنتمين لبيئات متنوّعة، جبال القوقاز وغاباتها ومغاورها وحقولها، وقصور القيصر الروسي وأوساط ضباطه، والأراضي المقدّسة في مكة والمدينة المنوّرة، حتى وصل بتقديم أحداث لها علاقة بالإسكندرية ومصر وبالجزائر، مما يمنح القارئ قدرة للخروج عن مألوف السيرة الغيرية التي تؤكّد على أفعال صاحبها الواقعيّة، كما منحه طاقة للتمتّع بسرديات تدخله في عوالم تخييليّة.

خلخل الكاتب الزمان عندما بدأ من نهاية الحكاية، وزادها خلخلة تنوّع سارديه الذين حكوا عن تجاربهم متجاوزًا قانون السببية، حتّى أضحى مسروده قائمًا على تقديم لوحات متجاورة يربط ما بينها شخصية شامل، الشخصية الموظّفة فنيًّا لمنح النصّ تماسكًا في كلّ لوحات أو مقاطع الرواية التي سردها شخوصه الفاعلين ابتداء من ابنة شامل كريمة، وانتهاء بها كراوية لموته الاختياري في مدينة رسول الله عام 1871، كريمة التي لا تزال تبكيه عندما تزور قبره، وتسمع تغريد عصفور محبوبته شعينات التي قالت لها: “إنّه عصفوري الجبلي يا كريمة. إنّه شامل يزورنا من مثواه بالجنّة” ص191، فيبكي القارئ معها.

كما يجد القارئ أن الكاتب لم يكتف بنقل الوقائع، بل اهتم كثيرًا بتوضيح موضوعات استمدّها من فكر شامل السلفيّ، وقدّمها مرتبطة بواقع الحال الذي يعيشه القارئ، فاختار واهتمّ بإظهار مواقف أرادها فاعلة حاضرًا تناغمًا مع الاستجابة لمتطلبات أنساق السرد، بحيث أومأ إلى أنماط ثقافية كانت سائدة في الزمن الحقيقي أو التاريخي منها الإيجابيّة، ومنها ما أضحى عيوبًا مجتمعية في الزمن التاريخي لسرد الحكاية ممتدًّا إلى الزمن النصّي أو زمن القراءة، وعلى سبيل المثال:

في استهلاله للرواية باللوحة الأولى التي ترك شامل يحادث ابنته قبيل وفاته قدّم عتيبة أنساقًا ثقافية إيجابية تعلقت بـرفض شامل لحكايات الجهل والخرافة، وزهده بالدنيا ومحاسبة نفسه على كلّ ما فعله، قائلًا لابنته:

  • إياك أن تصدّقي أي شيء دون أن تعرضيه على إيمانك وعقلك” ص10

ثمّ ابتهاله لله أن يميته بجانب الصالحين دون خوف من الموت، إضافة إلى إعلان محبّته لوطنه داغستان وجبالها وعشقه لغاباتها.

ثمّ يجد القارئ تكرار تيمة الحرية وحمد الله على التنعّم بها، قائلًا: “ان هدفنا الله والحرية”، ومنها نحن شعوب نقدّس الحرية”32،21، 30، 65،… وتحصيل العلم واتباع الحقّ من أجل الجهاد، ونجد نسقًا إيجابيًّا عندما ردّ شامل على محاوريه: {لكم دينكم ولي دين} وموقفه من الحرب التي كان يحاول الانتصار فيها على الفناء، كان يحارب من اجل الحياة ص185 وحبّه لشعينات التي قالت أخيرًا: “والله لو تخلّى شامل عنّي لما تخليت أنا عنه” 129و ص131… إلخ ،… ثمّ التحذير من فجور أهل البلاد وعدم الانقياد لسفهائهم، والحثّ على تدريب الأرواح والأجساد.

أمّا العيوب النسقية التي تغلغلت في حنايا النصّ، فأمثلتها عديدة منها:

“أسوأ ما في المريدين شعورُهم بأنّهم مختارون من الله، من ليس معهم فهو ضد الله،

ومن كان ضدهم فهو يستحقّ الموت، إنهم مجموعة من الدهماء، تحركهم حماسة خطابية بلهاء يقتلون من يخافه، ويحتكرون الإيمان…” ص54، أو نقده للعادات المتسمة بالجهل:

  • “نقيم مقامات للأولياء والمدّعين، ونطاول السماء زهوًا بقصائد شعر الفخر الركيك” ص61

ثمّ يلقي الضوء على الجهل والخيانة من خلال لقاء شامل مع عبد القادر الجزائري، إذ يحذّره:

  • “الانكسار يأتي من جهل من أحارب من أجلهم وخيانتهم، وما يمتلكه العدو من علم وقوة” ص63، …

ولأنّ شاملًا صوفيٌّ، فهو لا يدرك قواعد الساسة، فيضع أفكاره أولًّا، قبل المصالح. ومثلًا تخلّصه من خصومه لإعلان ابنه خليفة له ص80. أو لأوامره المشدّدة بتوقف الإنشاد والغناء وصمت الشعراء المعبّر عن استبداد العقل السلفي ص88. وأيضًا الصراع بين المسلمين، لاسيما السنة والشيعة ص96، الحطّ من شأن المرأة والتعامل معها باحتقار ص105، التشدّد بتطبيق الأحكام الشرعية الذي أورث عداوة بين المريدين والناس المبتغين انسجامًا مع متطلبات الحياة المعيشة ص136 و 141

لم يهتمّ الكاتب بكلّ تفاصيل حياة الشخصيات التي عالجها إلّا بالمقدار الذي يكشف عن أفعالها مهملًا صفاتها الخصوصية، لمصلحة الكشف عن تيمات مجتمعيّة هادفًا إلى تسليط الأضواء عليها، وهذا ما أغنى لديه تشكّل المسرود التخييلي السيرغيريّ المبني على الواقع، ولكن الموشّح بأفكار وقيم تصلح لمخاطبة العقل في زمن قراءة الرواية، والتي بناها كأنماط نسقيّة منها الإيجابي ومنها ما هو عيوب نسقيّة على ما تمّ ذكره.‏

أخيرًا وليس آخرًا فإنّ منير عتيبة تمكّن من منح نصّه سمات الأدبيّة، موظّفًا تقنية الرواة المتعدّدين ليقدّم لوحات سرديّة متجاورة، ولأنّه قارئٌ ممتاز لسيرة شخصية تاريخية عظيمة، فقد أنتج نصًّا تخييليًّا سيريًّا غيريًّا أضفى عليه من روحه الأدبيّة الكثير من الجماليّات والقيم المعرفية والجمالية التي تتحقّق سلوكًا مع القارىء راهنًا، على الرغم من تشابه الأساليب اللغويّة على ألسنة كلّ رواة نصّه، سوى من بعض مواقف فرضها تنوّع الرواة الإثني أو الجندري ( إناث وذكور).

ولا بدّ من الإشارة إلى وجود بعض أساليب المجاز، لا سيما الكناية، ومنها: أرى ظلال الأشجار تتحرك في بؤبؤ عينيه” ص16، ” “أخذنا نحدّق في قمّة الجبل والعمامة الكبيرة الزرقاء التي تلتفّ بها عمامة السماء” ص28، انفراده بنفسه تحت أقدام جبال داغستان” ص29، “نحن كرات من نار مشتعلة لو اصطدم بنا أحد لأحرقناه” ص31، ” كان الرعب على وجهي الجنديين يرسم خريطة هزيمة”، “كانت عينيه، يلمع فيهما البريق كعيني صقر فوق قمة ثلجية” ص49 ، من الكهف الصغير خرجت البقرة” ص79، “أقطّع أوتار حنجرتي بخنجر صمتي” ص89 “القلق غراب أسود ينهش قلبي” ص129، الغابات التي تغني وتنادي بالحياة، شممت رائحة الدماء تسيل من أجل مبدأ، دين، الحرية …” ص172.

بقيّ أن نذكر أن الشيشان الذين قادهم (شامل الداغستاني) على دروب دفاعهم عن هويتهم الثقافية الإسلاميّة، بعد أن تعرّضوا إلى جرائم وإبادات، أصدر قيصر الإمبراطورية الروسية ألكسندر الثاني عام 1864م قرارًا بطردهم من بلادهم، فكان التهجير القسري إلى سوريا، والأردن، ولبنان، ومصر، وليبيا، وفلسطين، ثمّ ازداد تهجير الشراكسة في بدايات القرن العشرين إثر الثورة البلشفية في روسيا، ويبلغ تعدادهم اليوم في سوريا أكثر من ثمانين ألف نسمة وفي الأردن حوالي مائة وعشرون ألف، وفي فلسطين حوالي سبعة آلاف شخص، إضافة إلى تواجدهم في تركيا ولبنان والكثير من بلدان الشتات بحيث يعتبر الشراكسة من أكثر شعوب العالم المشتتة؛ فـ 93% منهم يعيشون خارج حدود وطنهم.

بعد قراءة رواية أسد القفقاس نجد أنفسنا أمام تاريخ مفعم بالبطولات والهزائم والمآسي، نستلهم وقائعه، ونقرأ نتائجه، ونأخذ العبر، لنكون أكثر قربًا من واقع مأساوي بمواجهة الموت المتجدد والتهجير القسريّ والتضليل العولمي والتدمير الممنهج لإمحاء هويتنا التي لا تزال تنبني منذ أكثر من 1400 عام، والتي لا بدّ أن تفضي بنا إلى دروب متجدّدة لمقاومة ثقافيّة عربيّة إسلاميّة.

 

 

 

مواضيع ذات صلة

مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية وندوة بعنوان ملامح السرد السوري

 


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه:

تم كشف مانع الإعلانات

رجاء تعطيل مانع الإعلانات لكي تدعم موقعنا شكرا