بين سلفيتين
نهضوية مسالمة .. وجهادية عنفية
قامت ” السلفية النهضوية ” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ظروف داخلية ( اجتماعية ) تميّزت ببداية ظهور طبقة ( أو فكر طبقة ) بورجوازية منتجة , مرتبطة بأرضها ووطنها , وتستحوذ على تفكيرها هموم تجاوز التخلف واللحاق بركب الحضارة الغربية البورجوازية , والاستلهام من أفكار عصر النهضة الأوروبية في مرحلة الرأسمالية المبكرة التقدمية قبل دخولها عصر الامبريالية والاستبداد والطغيان .
أما السلفية العنفية أو الجهادية فهي وريثة السلفية التقليدية المتمسكة بحرفية النص لابن تيمية وابن قيّم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب. وقد ظهرت هذه السلفية في مناخ هيمنة الإقطاع العسكري السلجوقي المملوكي ، ومن ثمّ في مناخ بادية نجد والتطلع للإستقلال عن الهيمنة العثمانية الإقطاعية .
تزامن انتعاش السلفية الجهادية واسهم في صعودها الظواهر التالية :
– انهيار الاتحاد السوفيتي وانحسار شعبية الأفكار الاشتراكية.. تعثّر حركة النهضة العربية وفشل الأنظمة ،التي سعت لتحقيق بعض المنطلقات الاشتراكية نتيجة سيطرة البورجوازيات البيروقراطية والطفيلية على تلك الأنظمة .. وبعد هزيمة هذه الأنظمة أمام العدوانية الصهيونية انفتح الطريق رحبا أمام تيارات الإسلام السياسي ، وفي مقدمتها السلفية الجهادية .
– ظهور النظام الدولي الجديد وبروز العنجهية الاستعمارية الأميركية .
– دور العدوانية الصهيونية واستفزازات الأصولية اليهودية في دفع الأصوليات الاسلامية إلى ردود الفعل الدفاعية والابتعاد عن التلاقح الحضاري , الذي عرفه تاريخ الاسلام في عهوده الزاهرة .
– اتساع الهوة الحضارية بين الشرق والغرب , الذي أسهم في ترسيخ جملة من المفاهيم المنكفئة إلى عصور الماضي , عصور خفوت وهج الحضارة العربية الاسلامية وسيادة اللاعقلانية والفكر الغيبي .وهذا ما تنهل منه السلفية في عصر التراجع النهضوي ظانة أنها تستخدم سلاحا بتّارا في مقارعة الهيمنة الاستعمارية , التي تسميها الهيمنة الغربية أو الغزو الصليبي أواليهودي .
وترى السلفية الجهادية في آرائها قطب الرحى العالمي ، وتعتبر نفسها وتاريخها محور العالم ومركزه . وهذا الموقف هو ردّ فعل مقلوب للإديولوجية الاستعمارية , التي ترى في اوروبا وتاريخها مركز العالم ونقطة انطلاقه قديما وحديثا .
وقد افرزت هذه السلفية تيارات عدوانية متطرفة ترفض الرأي الآخر متعالية عليه . وهي في الوقت نفسه منغلقة على نفسها ولا ترى في الحضارات الأخرى إلا ” دار حرب ” أو ” دار كفر ” ، بعكس مواقف سلفية عصر النهضة ونظرتها الانسانية إلى الحضارات الأخرى . فصاحب ” المنار ” الشيخ محمد رشيد رضا ، وهو في شبابه ، أحد اركان التيار السلفي النهضوي اكّد عام 1900 على ” الرجوع إلى السلف ويستتبع هذا مجاراة الغربيين في جميع علوم الدنيا وفنونها ” .
ومن صفات ” السلفية النهضوية ” الظواهر التالية :
التسامح ( في معظم الأحيان ) .. سعة الصدر .. الانفتاح على تيارات الحضارة العالمية .. احترام الرأي الأخر ( نسبيا ) والدخول في حوار معه .. وتجلى ذلك في الحوار مع التيار الليبرالي العلماني في سجال فكري اختلفت درجة حرارته من فترة إلى أخرى .
{ نقدم هنا رأي الشيخ رشيد رضا في الدكتور شبلي شميل مترجم نظرية داروين وداعيتها . كتب رشيد في مجلته المنار سبتمبر 1909 : ” … وأعرف من الأطباءوغيرهم من يقولون بمثل قول داروين , وهم مؤمنون إيمانا صحيحا ومسلمون إسلاما صادقا … ” . وأضاف رشيد واصفا شبلي شميل بأنه ” من أوسع العثمانيين علما واختبارا, وأشدهم حرية واستقلالا , وحرصا على عمران البلاد ,وارتقاء أهلها في العلوم واللآداب ” .
وعلى العكس من السلفية النهضوية يسود في أوساط السلفية الجهادية : التحجر والانغلاق الفكري وهدم العقل . وهؤلاء يحاربون أية دعوة إلى الانفتاح على التجارب الانسانية الخصبة والاستفادة منها ، بالاضافة إلى تكفيرهم لمعارضيهم كائنا من كانوا .
وتأتي حركة الإخوان المسلمين في سورية في منزلة بين منزلتي : السلفية المُغرِقة في محافظتها وإنغلاقها وتزمتها ، والسلفية التنويرية معبّرة في ذلك عن واقع الأجواء الشامية المتصفة بالتنوع الطائفي والمذهبي والإثني . كما أخذ إخوان سورية بعين الاعتبار نهوض حركة القومية العربية واكتسابها أفئدة شباب منتصف القرن العشرين . يضاف إلى ذلك طبيعة الحركة السلفية في بلاد الشام ، التي اكتست ثوبا نهضويا منذ أواخر القرن التاسع عشر .
ولهذا تميزت الحركة الاسلامية في سورية ممثلة بالاخوان المسلمين بالإعتدال ومراعاة الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة وانجبت فكرا ، سنرى معالمه بعد قليل . أما تيار العنف الذي ظهر داخل الحركة الإسلامية للإخوان المسلمين في سورية وسيطر في ثمانينيات القرن العشرين فله ظروفه التي نما فيها وهذا ما سنتناوله في فقرة تالية .
( 5 )