المخطوطات

علم المخطوطات وأنساقها بصفتها وعاء للكتابة
وعملياتها الإجرائيّة
يعالج علم المخطوطات الذي ينفتح للتاريخ والفهرسة والخطّ العربي والترميم والتحقيق جملةّ من القضايا تتعلق بدراسة المخطوطات القديمة والنصوص للوقوف على حقائقها وأطوار مكوناتها الماديّة والفنيّة، ومن الممكن إجمالها بـ:
1): المواد الصنعيّة للمخطوطات
الأحبار
استخدم المصريون القدماء الأحبار نحو 2000 ق م، والمقصود بها: “الحبر المستعمل للكتابة، المادة الأساسية في عمل النسّاخ والورّاقين والعلماء وغيرهم ممن شاركوا في نسخ العلوم والمعارف”[1] وأطلق العرب عليها: (مداد، حبر، نِقص، سواد، مركب)، ويتعلق بحث تقنيات الحبر والمواد الكيميائية كلّها بأساليب تنقيتها والتجارب العمليّة والأجهزة المستخدمة وخطوات صنعها وخواصّها، وإذا كانت الخيمياء والسحر والتنجيم من سمات العصور الوسطى، إلّا أنّ كتبَ الصناعات واضحة في التراث العربيّ الإسلاميّ للمتابع، ومنها ما اختصّ بتصنيع الحبر أو المداد ومن كتب التصنيع التراثيّة: رسالة (زينة الكّتبة)[2] لأبي بكر الرازي (متوفى 311هـ/923م) الذي تناول في ستّ ورقات صناعة الأحبار وحيل الكتابة ووصفات إزالتها وحفظها، ومن الكتب التراثية التي عالجت صناعة الحبر كتاب (عمدة الكتّاب وعدّة ذوي الألباب) للمعز بن باديس (توفي 454هـ/1061م) و(في قلع الآثار عن الثياب) للكندي (توفي 260هـ/873م) و(الرسالة العذراء) للشيباني توفيّ (298هـ/908م)، إضافة إلى كتاب (الخواص الكبير) لجابر بن حيان (توفي 200هـ / 815م) وكتاب (المخترع في فنون من الصنع) ليوسف الرسولي (توفي 694هـ / 1294م) وقد فصّل الرسولي بـ: “كيفية استعمال المواد ووضّح ذلك وشرحه، وحدّد كمياتها النسبيّة، ومعالجتها عند وضعها على الملابس وغيرها،… ثمّ فصّل عن صناعة الأحبار فجاء الفصل الثاني من الكتاب (في عمل أجناس المداد وعمل الأحبار السود والأحبار الملونة)، قدّم فيه 24 وصفة لأنواع من المداد والحبر”[3] ثمّ جاء الفصل الثالث عن تلوين الصباغات، والرابع في الكتابة بالذهب والفضة وغسل اللازورد، والخامس في وضع الأسرار في الكتب، وكتاب (عيون الحقائق وإيضاح الطرائق) لأبي القاسم العراقيّ (توفيّ حوالي 700هـ / 1301م)، كما ذكر لطف الله قاري في بحثه المشار إليه كتاب: زهر البساتين في علم المشّائين للزرخوني (متوفى 808هـ / 1405م) والنجوم الشارقات لمحمد الحسني المتوفى أواخر القرن العاشر الهجري، وقطف الأزهار لأحمد المغربي، وجواهر الفنون والصنائع لمحمد الهرمسي، وذكر قاري أنّ: “معظم نُسخ الكتب السابق ذكرها لم يطبع بعد، ويحتاج إلى من يعمد إصداره محققًا”[4] ومن الأهميّة بمكان أن يُجرى التحليل الكيماوي لمكونات مواد الكتابة؛ إذ هو الضامن لتحديد مكوناتها وتاريخ استخدمها في عملية النسخ، ومعرفة طبيعة المواد المستخدمة.
حامل كتابة المخطوط
ومن مصادر الصحائف التي كتب عليها ما هو نباتي مثل لفائف البردي، ومنها حيواني مثل جلود الحيوانات، وعلى الباحث الكوديكولوجي أن يعرف طرائق صقلها والتمييز بينها في أثناء مراحل تحويلها إلى برديّة أو رقّ صالح للكتابة عليهما، كما استخدمت الجلود (أديم، قضيم) لتجليد الكتب، أمّا بالنسبة إلى الورق فهي مادة مصنوعة من ألياف النباتات أو الخِرَق، واختلفت طرق صناعته في العالم الإسلامي الواسع، وقد صدّر إلى أوروبا في القرن6 هـ / 12م من فاس وخاتيقا في إسبانيا على ما ذكر الإدريسي، كما أنّ صحائف الورق لوّنت بالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق منذ القرن الثالث الهجري، وقد ساعد تنوّعُ ألوانِ المداد أو الحبر النسّاخَ على: “استخدام كلّ لون لتحقيق أهداف معيّنة كالتفريق بين النصّ الأصليّ، أو إبراز أسماء الكتب ومؤلفيها وعنوانات الأبواب والفصول، بالإضافة إلى رسم خطوط التنبيه في النصّ”[5] كما ذكر الطوبي طريقة القولبة في تصنيع الورق، وذكر تنوّع مواد صناعة الورق بمرور الزمن التي: “بدأت بالحرير وانتهت بمواد رخيصة مثل قشور النباتات ونفايات القطن وشباك الصيد الباليّة”[6]، ويؤكّد على ضرورة التحليل المختبري لتحديد مكوناته، وزمن صناعته، وأشار إلى وجود: “ثغرة في التعقّب الأثري لأوعية المعرفة في تراثنا العربي والإسلامي”[7] التي لا بدّ من تجاوزها للتمكّن من تعقّب ماديّة المخطوط العربي وكيانه.
2): دراسة الملازم وطريقة الطيّ للوصول إليها
لم تذكر هذه المهنة في الكتب العربيّة المعالجة للكتاب وصناعته، ولكنّ المحدثين فصّلوا في طرق الطيّ وصناعة الملازم، وبعضهم من شرح طرق تحضيرها بناء على ما كتبه الغربيون؛ إذ تعلّق طيّ القطع الجلديّة لتصنيع الكتاب وملازمه بطريقتين: الطيّ بقطع الربع والطيّ بقطع الثُمن، ثمّ يرتّب المجلِّد صفحات الكتاب بعد إجراء عملية القطع بسكين على شكل ملزمة مطوية، وتُخزم الصحائف والملازم بأنماط متباينة، كما تُخزَم الجلود على نحو أصعب، وذلك عن طريق إحداث ثقوب، إضافة إلى تخزيمات التسطير لتحديد مساحة خطوط الكتابة، ومن وظائف الخزم أيضًا ترتيب الصفحات، كما يدرس فيه كيفية تقطيع فرخات الكتاب المكوّنة الملازم وتهيئتها المباشرة بعمليات القطع والنسخ والترقيم، ومن علامات الخزم المدوّرة أو المثلّثة أو على شكل خطّ صغير مستقيم، وهذه العلامات تشير إلى أصل الكتاب وزمن صناعته، وتعدّ دراسة الخزم بمنزلة علامات تحمل إشارات عن تاريخية المخطوط وبيئته، ومهنة طيّ الصفحات وصنع الملازم ارتبطت باستخدام الورق المتزامن استخدامه مع الرقوق؛ إلى أنّ حلّ الورق محلّ الرقوق نهائيًّا.
3): علاقة إخراج الصفحة بالتسطير
يعدّ التسطير جزءًا من الكيان المادي المستقلّ للمخطوط، وقد عرف العرب المسطرة واستعملوها بتسطير كتبهم، وعرفوا البركار، و: “التسطير هو مجموع الخطوط الأفقيّة والعمودية التي تساعد النّاسخ أو المزخرف على إنجاز نصّه أو زخرفته”[8] ويتمّ التسطير بمنقاش خاصّ أو بالنقطة الجافة، التي تنجّز بالمنحت من دون استخدام الحبر.
إنّ تتبع تطور الجانب الماديّ للمخطوط يقتضي البحث في التسطير الذي يعين على تركيب الصفحات وتناسقها وفق ترتيب جماليّ، و: “يعدّ بمثابة قانون تخضع الصفحة بموجبه للتنسيق وتكوّن عالمًا صغيرًا”[9]، ولاحظت مليكة بختي أنّ لتسطير المخطوطات نظامين، أولهما: بسيط بإقامة خطين عموديين أو طوليين لضبط النصّ، عرضه وطوله، المتضمنان الكتابة؛ وثانيهما: التسطير المركّب الذي يتمّ بإقامة مقاطع متواليّة في وجه الصفحة مرتكزة على عمود مركزيّ أو عمودين، ويكتب الناسخ تبعًا لاحتياجات النصّ على وجه الصفحة أو على ظهرها، وقد ذكر القدماء مساحة البياض بالصفحة، ومساحة الحاشيّة، وهذا يشير إلى تنظيم الورقة وإخراج النصّ، وذلك بالمخطوطات الرفيعة المستوى، أما معظم مخطوطاتهم فكان يسودها العشوائية في ترتيب صفحاتها، إضافة إلى: “بتر في أطراف هوامش الصفحات الرئيسية”[10]، ومن الجدير بالذكر أنّ الرقّ لدى العرب بقيّ مستخدمًا حتّى القرن الثامن الهجري/الرابع عشر ميلادي، ومنذ القرن 9هـ/15م، حلّ الورق محلّ الرَّق وأصبح التسطير بالمسطرة أكثر انتظامًا.
وفي معرض ترتيب الصفحات وتركيبها لا بدّ للباحث الكوديكولوجي من الانفتاح على الخطوط والزخرفات واختلاف الحروف وبدايات الصفحات ونهاياتها، وصولًا إلى الفهارس والملاحق المبوّبة، والكشف عن تناسق النصّ، وعنوان المخطوط وعنواناته الفرعيّة وهوامشه وزخارفه وتناغم عناصره هندسيًّا مع أدراجه أو حوامله البردية أو الجلدية أو الورقيّة.
وقد استخدم العرب المُسطِّرة وهي آلة خشبية مستقيمة الجنبين تُكبَس بها الأوراق لإبراز الخطوط على صفحاتها، وقد ورد أن تسطير الصفحات وهندستها كانت مختصة بالمخطوطات المهمّة ورسائل الملوك.
ولعلّ التسطير المفضي إلى خطوط أفقيّة وعمودية على الصفحة تعين الناسخ أو المزخرف أو الخطّاط على إنجاز عملهم.
4): التجليد
هناك ثلاثة أنواع لتجليد الكتاب الإسلاميّ، أولهما: يتألف من لوحين خشبيين مغطيين بالجلد ويغلق بخيط أو حزام جلديّ، وهو النوع الأقدم ويسمّى بالكتاب المعلّب، واستخدم لتجليد المصاحف حتّى القرن 4هـ/ 10م، والثاني: تجليد مع لسان؛ إذ اُستغنيّ عن الحزام الجلديّ، وتّم زمّ الغلاف العلويّ على مدار ظهر الكتاب، وانتشر هذا النوع من التجليد في القرن 5هـ/ 11م، والنوع الثالث: التجليد من دون لسان، ويجري تجليد الكعب وحواف الألواح بالجلد، ووجهي الغلاف من ورق ملوّن، وقد ظهر هذا النوع من التجليد في القرن11هـ/17م واستمرّ استخدامه حتّى نهاية عصر المعلومات.
وإذا كان النوع الأول من تجليد الكتب ذا طبيعة هشّة وزخرفته متواضعة، فإنّ النوع الثاني، عمومًا، كان يجري التجليد بعد تسوية الملازم مع بعضها بعضًا داخل دفوف واقية، ثمّ يغلّف الكتاب بالغلاف المصنوع من جلد ويتمّ تغريته، ويزينونه برشوم على وجه الغلاف وظهره؛ إذ: “هناك علاقة مباشرة بين الزخرفة الملوّنة وتصميم غلاف الكتاب في المخطوطات الإسلاميّة، ذلك أنّ التصاميم الهندسيّة والنباتيّة هي السائدة في تجليد الكتب طوال عصر المخطوطات”[11]، ومن نقوش التجليد: ما شاء الله، بسم الله، والله حسبي، لا يمسّه إلّا المطهرون،… إضافة إلى الاهتمام بتصنيع اللسان وشدّ الملازم في المكبس والتخزيم وخياطة الملازم وتصنيع البرشمان وغير ذلك من أمور لابدّ أن يُبحث عن طريقها للوصول إلى المكونات الأساسيّة لحرفة التجليد؛ التي تنتهي بالتقبيب والحبك والتبطين… إلخ، والتي تطورت في مرحلة النوع الثالث، ثم لا بدّ للباحث من تتبع العصر الذي جلّد فيه ومكان إنجازه، ولابدّ أن يبقى حذرًا عند تحديد زمن التجليد؛ إذ من الممكن أن يكون تجليد الكتاب قد تمّ في زمن متأخّر عن زمن تأليف المخطوط أو نسخه، ومن المصادر العربيّة القديمة في صناعة التجليد كتاب (عمدة الكُتّاب) للمعزّ بن باديس (متوفى 454هـ/1062م) وكتاب (صناعة تسفير الكتب وحلّ الذهب) لأبي العباس أحمد السفياني (متوفى حوالي 1029هـ/1619م)، وكتاب (التيسير في صناعة التسفير) لبكر بن إ.براهيم الإشبيليّ (متوفى 628هـ/1231م).
5): التذهيب ومكوّنات الزخارف
وتتعلق بمعطيات الزخرفة والتصوير والتزيين والتذهيب، ومن الزخارف ما هو مذهّبًا أو مشبّكًا ويكثر على الجلود وبطانة الغلاف، وتتنوع الزخرفة الملوّنة وتوريق الأرابيسك الذي وجد في رأس اللوحة وذيل المخطوط ورقعة السرلوحة والعنوان والشمسة والفواصل النصيّة… إلخ، ومنها التصوير والزخرفة النباتية وتوظيف التوريق والتشجير، وقد قسموا هذه الفنون تعاقبيًّا: “فنتحدث أولًّا عن الصور والرسوم التوضيحيّة، ثمّ الحِليات والزخارف الجماليّة، فالتذهيب”[12]، ولعلّ حرفة الزخرفة والتلوين وصناعة التذهيب تساعد الباحث الكوديكولوجي منهجيًّا على تعقّب المواد وسرّ تصنيعها، وربطها بالعناصر الماديّة الأخرى.
6): مخاطر البيئة على المخطوطات
ويعالج فيه تغيرات تقنيّة طارئة على المخطوط نتيجة طي الصحائف وتركيب الدفف وكبس قفا المخطوط والحزم وغير ذلك مما ذُكر آنفًا، ومما يغيّر من طبيعة المخطوطات تعرّضها للكائنات الحيّة الدقيقة، مثل عفن الفطريات التي تنمو في بيئة الرطوبة، وقد أثبتت التجارب العلمية نجاح مقاومتها بأشعة جاما المكوّنة من موجات كهرومغناطيسية لها قوة اختراق عالية تمرّر بين المخطوطات فتعقّمها وتوقف نشاط الفطريات، وقد ورد عند مانويلا دي سيلفا: “أثبتت فعالية أشعة جاما في علاج الكتب والوثائق وأية أوراق تعرضت للتلف بالعفن”[13] كما أنّ هذه الأشعة وفّرت بيئة صحيّة للموظّفين داخل المكتبات وبيوت الأرشفة.
إضافة إلى أنّه صار بالإمكان تحديد فترة صنع وتاريخ المواد القديمة بطرق علمية معاصرة، ليس آخرها استخدام الكربون 14 المشعّ بدقة نسبيّة.
7): النِّساخة وخوارج النصوص
تتنوّع الخطوط القديمة وتعدّ علمًا قائمًا بحدّ ذاته، وتتعلق بمصطلح النسخ الذي يحمل كثيرًا من الدلالات المولّدة لمرادفات مثل: استنساخ، نساخة، كتاب، اكتتاب، تمشيق، تنميق، تنبيق، ترقيم، تسطير، تزبير، تخطيط، ترقيش، تزوير، زخرفة، تنقيش، تقييد، تدوين، تسويد، تبييض، تحبير، تحرير، تعليق…، ولكن ما يعني الكوديكولوجي هو أماكن النسخ (المنازل، المكتبات، المدارس، المساجد، زوايا المتصوّفة، القلاع، ومنها محترفات جمعت نسّاخ ورسامين ومزخرفين وخطاطين في عهود الإيلخانيين والتيموريين والمغول والصفوين العثمانيين، وقد جمعت من حرود المتن، ويعنيه – أيضًا – الأدوات المستخدمة في أثناء الكتابة، ومادة الكتابة وحجمها، وجلسة الناسخ وحركاته والمعلومات المثبتة على المخطوط عن التاريخ وعن أحوال النساخة، والتزيين والزخرفة والعنوانات الملوّنة وحروف الابتداء والتجليد، والتمييز بين النساخة الفرديّة والجماعيّة.
ويعضد علم الخطوط القديمة علم المخطوطات عن طريق اهتمام الباحث بماديّة الخطوط ونوعيتها وطريقة كتابتها ومعدل الحروف في السطر وعدد الكلمات وغير ذلك، ومن الممكن اهتمام الباحث بتمزقات الورق أو الرق أو البرديات والتحدبات والثقوب والحشرات والشطب والكشط والإحالات، وقد كتب أحد شوقي بنبين عن النساخة كتابًا بعنوان: (علم المخطوط والبحث الببليوغرافي) وقديمًا كتب ابن البواب (توفي 423هـ/1033م)، وابن باديس (توفي 454هـ/ 1063م)، بالخطوط والأقلام، وأيضًا كتب ابن مقلة (توفي 326هـ/1036م) رسالة في علم الخط والقلم.
ويختلف تاريخ المخطوطات عن النِّساخة؛ التي تحمل معاني الكتابة والتقييد والتحرير؛ إذ تتعلّق بالهامشي من المخطوط، وليس بمتنه ومن ذلك: “بدايات النصوص ونهاياتها والعنوانات وحرود المتن والوقفيات والترقيمات والسماعات والإجازات والقراءات والأدعيّة”[14] ويضاف إليها: “قيود التوثيق (معارضات، مقابلات، بلاغات) وقيود التملّكات والأختام والخواتيم والتقريظات وقيود النظر والمطالعات والتراجم وأسعار الكتب وإعارتها وتواريخ الولادة والوفاة”[15] ولعلّ جلّ عناصر القيود والبيانات تشغل صفحات المخطوط الأولى والأخيرة، لا سيّما صفحة حرد المتن وهوامشه، وفي ظهره، وتستدعي ملحقات النساخة وخوارج المخطوط دراسة تاريخية، لتقدير تاريخ ما قبل إنجاز المخطوط وتاريخ إتمامه وتملّك نسخه ومدى وثوقية النصّ المنسوخ، وتوثيق النسخة المخطوطة عن طريق قيودها المذكورة آنفًا تفيد بمعرفة العنوان والمؤلف، ومن ثمّ يبحث في قراءة نسخة المخطوط على مؤلّفها أو غيره، إضافة إلى الإجازات التي تعني دراسة طالب العلم لدى عالم مشهود له بالعلم، ثمّ يجيز له إجازات نسخ أو رواية أو قراءة وغيرها، أو إجازات سماعات وتعني: “أن يُقرأ الكتاب أو جزء منه على عدد من السامعين تسجّل أسماؤهم في نهاية القدر المسموع”[16]، إضافة إلى التمليكات المتضمنة اسم مالك المخطوط وتاريخ التمليك ومكانه، ومنها يستنتج مدى انتشار الكتاب زمانيًّا ومكان انتشاره ونوعيّة تملكه ورحلة الكتاب، وكلّ الإشارات المتعلّقة بالنساخ كالتنجيم والطب والفقه لمعرفة تاريخ الثقافة للعصر الذي ظهر به المخطوط.
8): علامات الترقيم
وضع الخليل علامات الإعراب الأساسيّة وهي الكسرة والضمة والفتحة، ثمّ أضاف إليها السكون والشدّة والمدّة وعلامة الصلة والهمزة، وكانت شكل من أشكال إزالة العجمة والغموض بالمعاني، ثمّ بدأت علامات المخطوطات تتطور لدى علم النساخة العربيّة، ومنها التعقيبة ويقصد بها؛ تكرار أوائل الكلمات في أول ملزمة جديدة في أسفل آخر صفحة من الملزمة السابقة، وفي المخطوط العربي وجود تعقيبات عامة تشمل كلّ صفحات المخطوط، وجزئية تكون في بعض أجزائه، ومنها الإشارة إلى الشطب والإزالة، ومنها علامات الإضافات على هامشي الصفحة، ومنها الدوائر بنهاية الفقرة، ومنها الألوان التي تعبّر عن عنوانات أو لتحديد مرجع معيّن.
مشكلات حاليّة
ومن الجدير بالذكر: “من المشكلات التي تعاني منها المخطوطات العربيّة تشتتها بين مختلف أنواع المكتبات، ومشكلة ما يعتريها من إهمال لصيانتها أو حفظها أو معالجة آفاتها والتقصير بفهرستها في أمكنة تواجدها في دور الكتب العربية ومكتباتها وجوامعها وجامعاتها…، وأيضًا، عدم وجود تخصّصات أكاديمية عن المخطوط العربي”[17] إذ لا يزال علم المخطوطات (الكوديكولوجيا) خارج نطاق اهتمامات الباحثين والمؤسسات البحثية العربية المختصة، ومن المفارقات في هذا الزمن أنّ المكتبيين العرب لا يزالون معتمدين على عملين رائدين هما: معجم المؤلّفين لعمر رضا كحّالة، ومعجم الأعلام لخير الدين الزركلي اللذين مضى على صدورهما نحو قرن من الزمن.
أخيرًا وليس آخرًا لا يكتفي الكوديكولجي بتحقيق المخطوط ونشره، بل لا بدّ أن يتابع الدراسات المتعلّقة بمضمونه بهدف مجادلته، والوصول إلى الأنساق الثقافيّة التي انتشرت ببيئاته حين ظهر فيها، إضافة إلى بيئة الواقع الحاليّ الذي لا يزال أهله مؤمنين أنّه لا حلول إلّا لدى الأسلاف الصالحين، و: “إنّ الباحث ليرتاب فعلًا في الكتاب إذا ارتاب في مقدرة محقّقه على قراءة النصوص وتحليلها، أو كسله في الرجوع إلى المراجع الضروريّة في شرح الكلمات والمعاني التي تحتاج إلى توضيح وبيان، فيضيع العمل الأصلي من جرّاء إهمال وعدم اكتراث مدّعي التحقيق هذا”[18] فمن تلك المخطوطات ما يثير العصبيّة والطائفية والتكفير وكراهية الآخر وتصنيع الطغاة وتأليه الإمام أو الحاكم، وتشجع على انتشار الخُرافات والميتا تاريخ وعلى محاربة العلوم المعاصرة، فلابدّ للدارس من كشف النقاب عن العيوب النسقيّة التي خلّفتها مخطوطات محدّدة.
[1] – عابد سليمان المِشوَخي، الحبر والمداد في التراث العربي (مجلة معهد المخطوطات العربية: القاهرة، مج 55، ج1، مايو 2011) ص112
[2] – محمود محمد زكي، قدم بحثًا عنها في المؤتمر السنوي الثلاثين لتاريخ العلوم عند العرب الذي عُقد بجامعة حلب، سوريا، عام 2010م.
[3] – لطف الله قاري، الحبر والمداد في كتب الصناعات الشاملة (مجلة معهد المخطوطات العربية: القاهرة، مج 55، ج1، مايو 2011م) ص90
[4] – المرجع نفسه، ص104
[5] – عابد سليمان المِشوَخي، م. س، 161
[6] – الطوبي، مجلة معهد المخطوطات، م. س، ص27
[7] – المرجع نفسه، ص28
[8] – الطوبي، مجلة معهد المخطوطات، م. س، ص34
[9] – مليكة بلخي، م.س، ص59
[10] – مليكة بختي، م. س، ص70
[11] – آدم جاسك، المرجع، م. س، ص104
[12] – الطوبي، مجلة معهد المخطوطات، م. س، ص41
[13] – مانويلا دي سيلفا، استخدام أشعة جاما، ضد فطريات المخطوطات، ترجمة: أميرة سعد عزب (مجلة معهد المخطوطات العربية: القاهرة، المجلد 60، الجزء الأول، مايو 2016) ص252
[14] – الطوبي، مجلة معهد المخطوطات، م. س، ص45
[15] – آدم جاسك، المرجع، م. س، ص97
[16] – الحلوجي، م. س، ص86
[17] – عبد الستار الحلوجي، المخطوطات والتراث العربي (الدار المصرية اللبنانيّة (القاهرة، ط1، 2002م) ص47
[18] – عادل سالم العبد الجادر، م. س، ص77
د. أدهم مسعود القاق
اقرأ ايضًا: