القضية الكردية هي أيضاً… قضية عربية
الدكتور جمال الأتاسي
إن أول تجربة مررت بها، ووضعتني أمام وجود الأكراد كشعب آخر على أرض لقطر عربي، كانت مع نهايات ربيع 1941 وبدايات صيفه القائظ في العراق. عندما ذهبت ألتحق مع نفر من الطلبة العرب في جامعة دمشق بثورة رشيد عالي الكيلاني التي قامت ضد الاحتلال البريطاني في العراق إبان الحرب العالمية الثانية. وضمت شلتنا لبنانياً وفلسطينياً وأردنياً وأنا السوري، وكانت آمال التحرر العربي والوحدة ملء قلوبنا وأفكارنا. وعندما دمرت تلك الثورة وتقدم الجيش الانكليزي يقتحم ضواحي بغداد، وجدنا أنفسنا مضررين لمغادرة تلك العاصمة العربية هروباً إلى الشمال بعد أن قيل لنا أن المقاومة الوطنية تتجمع في كركوك. وأعطيت لنا سيارة صغيرة من تركات شركة النفط التي استولت عليها الثورة، ومضينا بها إلى كركوك حيث لم نجد من تجمع ولا مقاومة، إلا الغربة واستنكار المسؤولين عن إدارة المدينة لوجودنا فيها، ويممنا مع الصباح الباكر شطر الموصل متسللين بسيارتنا في دروب غير سلطانية. ولم يكن بيننا، وكلنا غير عراقي، من يعرف المنطقة أو له دراية بخارطة الدروب فيها. وانحرفنا كثيراً نحو الشمال بدلاً من أن نتجه غرباً، وتوغلنا من غير أن ندري في منطقة ” أربيل ” وبين الزابين الكبير والصغير. ووجدنا أنفسنا بعد سويعات من هذا التوغل التائه وقد تغيرت علينا كل معالم الأرض والسكان وملامح القرى المتناثرة وأزياء البشر وسحنهم، وأحسسنا أننا أضعنا المسالك ولسنا على طريق توصل إلى الموصل. وأخذنا نستوقف من نصادفهم على الطريق، ووقفنا نسائل من يعملون في الحقول. وكانوا يجيبون على أسئلتنا ويتحادثون فيما بينهم بلغة لا نفهمها ولا نعرفها. وما كنا نستطيع أن نفهمهم مقاصدنا عن طريق الإشارات وبتغيير اللهجة واللغات، إلا بعد لأي كبير، وأكثرهم كان يبتعد عنا في استغراب وكأننا قادمون من فلك آخر. وضاعت عنا معلوماتنا الجغرافية وحس المسافات، وحسبنا لوهلة أننا أصبحنا في الأراضي الإيرانية. وأخيراً وقفنا عند امرأة عجوز تعمل منفردة في إحدى الحقول، واستطعنا أن نفهمها أننا غرباء وقد ضللنا الطريق. فأشارت بيدها إلى بعيد حيث أبصرنا على إحدى الهضاب بيت يرفرف عليه علم ومن خلفه بضعة بيوت قروية وقباب. وكان مخفراً للشرطة العراقية ووجدنا فيه ضابطاً صغيراً استقبلنا بلسان عربي فصيح وأحسن استقبالنا وعرفنا منه أننا مازلنا على أرض عراقية وإنما في منطقة يقطنها قوم من الأكراد. وأبى إلا أن يرافقنا رجل من عناصره حتى الموصل كدليل. وفي الموصل التي وصلناها مع الغروب وجدنا أنفسنا شأناً آخر ولقينا حنو العروبة علينا بأكثر مما لو كنا عائدين إلى أهلنا وديارنا، وكذلك كان وداعنا. ومضت الأيام وبقيت في الذهن صورة راسخة أن في شمالي العراق شعباً آخر غير شعب بغداد والموصل، ولكن قضية ذلك الشعب لم تتبلور حينها في الذهن بأكثر من ذلك.
وتتوارد إلى الذهن ذكريات أحداث جرت قبل ذلك التاريخ وبعده، وتتعلق بحملات الاضطهاد والإبادة الجماعية التي قامت بها السلطات التركية ضد الوطنيين الأكراد منذ قيام دولة تركيا في عهد أتاتورك حتى اليوم، وما أدت إليه تلك الحملات من نزوح سكاني عن كردستان في تركيا ومن لجوء أفواج أثر أفواج من الأكراد إلى سورية ولبنان. وتطالعنا كتب التاريخ وقصص الأحلاف والمعاهدات، أن معاهدات سعد آباد الموقعة في 8 تموز عام 1937 بين تركيا والعراق وإيران وأفغانستان، والتي كانت نسخة بدائية عن معاهدة حلف بغداد فيما بعد، قد جاءت تقول بأن من أهدافها الرئيسية ” تنسيق الجهود بين تلك الدول لمكافحة الأعمال التخريبية في المنطقة “، وكانت موجهة بالدرجة الأولى ضد التحركات الكردية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية بل وقبل ذلك عند اقتراب نهايتها، كنا مشدودين إلى مسائل استقلالنا الوطني، فلم يشغلنا كثيراً ما كان يجري هناك على ” البوابة الشرقية ” للوطن حين مد السوفييت وجودهم إلى إيران وأقاموا جمهوريتهم الأزربيجانية الديمقراطية في تبريز وحولها، حين أعلن القاضي محمد بتاريخ 22 كانون ثاني عام 46 في مدينة مهاباد قيام أول جمهورية كردية مستقلة وحين وضع تشكيلات جيشها تحت قيادة الملا مصطفى البرزاني الذي انضم إلى تلك الجمهورية بعشيرته الوافدة من العراق وبمقاتليه.
ومن المفيد أن نسترجع الآن ذكريات تلك التجربة للحركة الوطنية الكردية لما لها من دلالة، ولما تعطيه من دروس، ففي النصف الأول من عام 41 وبعد إسقاط ثورة رشيد عالي الكيلاني وقع العراق كله تحت الاحتلال البريطاني من جديد، وفي آب من العام ذاته تم احتلال إيران حين دخلته الجيوش البريطانية من الجنوب والسوفييتية في مقابلتها من الشمال. وبقيت منطقة كردستان الإيرانية شبه طليقة بينهما، وتمتع سكانها بقدر من الحرية في إدارتها ذاتياً. وهنا أخذ عدد من القادة الوطنيين الأكراد وزعماء العشائر الكردية في تركيا وإيران والعراق يتلاقون حول فكرة إقامة دولة ” كوردستان الكبير ” لحسبانهم أن معطيات الحرب الدائرة وقرباهم من السوفييت والحلفاء تقدم فرصة مواتية، ووقعوا ميثاقاً فيما بينهم بهذا القصد في تشرين الأول عام 1944. وذهب وفد منهم برئاسة القاضي محمد إلى مدينة ” باكو ” في دعوة من الاتحاد السوفياتي، وهناك حاول المسؤولون السوفييت إقناعهم بأن مثل تلك الدعوة التي ينادون بها لقيام وطن كردستاني موحد ومستقل مازالت سابقة لأوانها، وهي غير واقعية ولا ممكنة ما لم تنتصر ” القوى الشعبية ” في تركيا والعراق بعد إيران. وكانت توجيهات السوفييت أن يقنع الأكراد في الوقت الحاضر بنوع من ” الإدارة الذاتية ” لكردستان إيران في إطار ” جمهورية أزربيجان الديمقراطية ” التي سيقيمونها وشيكاً في شمالي إيران تحت حماية الجيش الأحمر، ولكن ما أن استولى الأنصار الشيوعيون على السلطة في تبريز في منتصف تشرين أول عام 1945 وأعلنوا قيام ” تلك الجمهورية ” إلا وأخذ الأكراد يرتبون أمور جمهوريتهم المستقلة، فأعلنت حركة ” كومالا ” التي كانت على رأس الحركة الوطنية الكردية هناك تحولها إلى ” حزب كردستان الديمقراطي ” برئاسة القاضي محمد الذي كان قد انضم إليها. ومع إطلالة عام 46 قامت جمهورية مهاباد المستقلة، ولكن سياسة التوازنات الدولية والضغوط التي مارسها الحلفاء الغربيون على الاتحاد السوفياتي، جعلته يسحب جيوشه وجمهوريته الناشئة من إيران، وعاد العلم الإيراني يرفرف في مدينة تبريز، وقبل نهاية عام 46 بأيام، اقتحمت الجيوش الإيرانية معززة بالدعم البريطاني مدينة مهاباد. فقتلت من قتلت وشنقت القاضي محمد ومن معه، وقام الملا مصطفى البرزاني وما بقي من جيشه وعشيرته بانسحابهم الطويل إلى أرمينيا السوفيتية حيث أقام لاجئاً إلى أن عاد إلى العراق أيام حكم عبد الكريم قاسم، وهكذا انتهت تلك الجمهورية الكردية لتبقى في الأذهان تجربة وذكرى.
ومرت بعد ذلك سنوات سكتت فيها أو كادت، التفجرات الثورية في المناطق الكردستانية، إلا بعض التحركات والعصيانات المحدودة، لتحل محلها نشاطات سياسية وتشكلات حزبية، أخذ الكثير منها بالتمركس أيديولوجياً، كما خضعت لعمليات الانقسام والتعدد من غير أن تصل إلى صياغة ناجحة لوحدتها الوطنية. وبعد أن كان تركيز القوميين الأكراد على كردستان تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم على كردستان إيران أثناء الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، أخذت تحركاتهم واهتماماتهم بعد ذلك تنصب على كردستان العراق، حيث أخذت تتوالى المطالب والعصيانات وحركات التمرد على السلطة المركزية. ولكن المسألة الكردية لم تأخذ تطرح نفسها في العراق بشكل ملحّ وحاد إلا بعد ثورة 14 تموز عام 58 وسقوط الملكية.
اقرء ايضا:
الجزء الأول من المقال
الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال
الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال
الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال
الجزء الثامن من المقال
الجزء التاسع من المقال
الجزء العاشر من المقال
الجزء الحادي عشر من المقال