القضية الكردية هي أيضاً… قضية عربية
الدكتور جمال الأتاسي
وفي الحقيقة الزمنية التي مرت بين سقوط جمهورية مهاباد في إيران وقيام جمهورية عبد الكريم قاسم في العراق، وقعت تغيرات كثيرة وأحداث في منطقة الشرق الأوسط، استحوذت على كل مشاعرنا واهتماماتنا. لقد وقعت ” النكبة ” في فلسطين وقام كيان إسرائيل الصهيوني وسقطت نظم عربية وتحركت الانقلابات العسكرية، وجاءت ثورة يوليو تموز في مصر عام 52 لتحدث التغيير الكبير. ونهضت حركة الجماهير العربية أي نهوض وراء أهدافها في التحرر الوطني والتحرير، وفي التقدم والوحدة، ووجدت في جمال عبد الناصر قيادتها التاريخية، وفي مصر عبد الناصر مرتكز ثورتها القومية الديمقراطية. وبعد أن تحقق أول إنجاز كبير لحركة التحرر العربي في تأميم قناة السويس ودحر العدوان الثلاثي عام 56، واقتلاع أعتى ركائز الاستعمار القديم من المنطقة، اخترقت تلك الحركة مقومات كانت للنظام الشرق أوسطي ولهيمنة الامبريالية، وأخذت تدفع دفعاً حثيثاً على طريق الوحدة القومية، ونجحت تلك الخطوة الثورية الرائدة في إقامة وحدة مصر وسورية، ودمرت حلف بغداد في بغداد ووضعت القطر العراقي بثورة 14 تموز على طريق التحرر والوحدة. ولكن أمام هذا الدفع الجماهيري الثوري الوحدوي التاريخي، قامت تناقضات، وافترقت قوى وطنية كانت مؤتلفة، وتجمعت قوى حول حكم عبد الكريم قاسم وتجمعت مصالح فئوية أخذت تدفع به إلى الارتداد عن طريق الوحدة وتغذي ما عنده من نزعة إقليمية وفردية. وأخذت تغريه بأمجاد الزعامة الوحدانية والمزاودات التقدمية، وهنا جاءت المسألة الكردية تطرح نفسها من جديد على النظام العراقي، منذ أن جاء الدستور المؤقت في 27 تموز، أي بعد أيام من قيام الثورة ليقول ” بضمان الحقوق القومية للعرب والأكراد في إطار الوحدة الوطنية للعراق “. ولقد حاول النظام القاسمي (وكان أول نظام انفصالي قام في وجه المد الوحدوي) أن يكسب الحركة الوطنية الكردية إلى جانبه إقليمياً بعد أن حظي بدعم القوى الشيوعية، ومضى إلى تدمير وسحل القوى القومية العربية المنادية بالوحدة وبعبد الناصر، ولكنه ما أن استتب له الأمر إلا وتحول ضدها لتتلقى منه أقسى الضربات حين دمر في حملة واحدة أكثر من أربعمائة قرية كردية على رؤوس سكانها. وفي ربيع عام 1959، أخذت أنشر مقالات وتحقيقات صحفية في جريدة ” الجماهير “، كما كتبت قبلها في جريدة ” الصحافة ” في لبنان، ضد نهج نظام عبد الكريم قاسم الإقليمي والانفصالي وضد الشيوعيين الذين دفعوا به في هذا الاتجاه وتحالفوا معه. وكان بين ما تناولته بالبحث حينها المسألة الكردية. وأخذت أحذر مما يدفع إليه نظام قاسم من إقامة تناقض وصراع، بين التيار القومي العربي الوحدوي والحركة الوطنية الكردية، وكان تركيزي على ذلك بخاصة عندما قامت ثورة ” الشواف ” في الموصل ضد انفصالية قاسم، وعدت فيما كتبت إلى ذكريات التجربة التي مررت بها عام 41 في العراق، وأكدت على ضرورة أن يقف الوحدويون العرب موقفاً واضحاً من المسألة الوطنية الكردية، وأن يقفوا موقف الإيجابية والدعم لمبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي، وليوجدوا صيغة تحالف وتعاون مع القوى الوطنية الكردية، موضحاً أن طريق الوحدة العربية، وأن انضمام العراق إلى الوحدة القائمة بين مصر وسورية، سيعطيهم فرصاً أوفى لتحقيق أمانيهم القومية. ولشد ما آلمني حينها ما وجّه إلي من لوم وانتقاد على الموقف الذي اتخذته، من عناصر بعثية وقومية، وبعضها جاءني من عسكريين كان لهم فيما بعد أدوارهم البارزة في التغيرات التي وقعت، وأنظمة الحكم التي توالت.
وأدى نظام عبد الكريم قاسم الدور السلبي الذي أريد له أن يؤديه حتى نهايته. وعندما ضرب حزب البعث في العراق ضربته الصائبة في 8 شباط عام 63 تحت شعار الثأر للانفصال، دعيت بعد أيام قليلة من قيام ” ثورة رمضان المباركة ” إلى بغداد، ولست هنا بصدد سرد الانطباعات التي تولدت عندي عن مجريات الأحداث حينها، ولكنني رجعت إلى تلك الذكريات لأقف عند حادثة واحدة تتعلق بموضوعها، فلقد خلوت مع بعض الإخوان بنائب رئيس حكومة الثورة المرحوم علي صالح السعدي وهو على أهبة السفر إلى القاهرة بدعوة من الرئيس عبد الناصر لحضور احتفالات ذكرى الوحدة في 22 شباط. وطلبنا منه أن يوضح لنا النهج الذي تعتمده هذه ” الثورة ” في العلاقات الوطنية الداخلية والعلاقات العربية، ومسائل الوحدة. وبعد أن أوضح ما أوضح سألته : ماذا أنتم فاعلون تجاه الأكراد والمسألة الكردية في العراق ؟ وكان توضحه بهذا الشأن ما يلي : ” لا أكتمكم أننا قد اتصلنا قبيل الثورة، بزعماء الحركة الكردية لنضمن هدوءهم عند قيامنا بحركتنا، وليؤيدوا ثورتنا. ولقد قطعنا لهم عهداً بتحقيق مطمحهم في الحكم الذاتي. ونحن مصممون على تحقيق بعض من مطالبهم، فإن قبلوا كان بها وإلا فنحن قد رتبنا أمورنا بحيث نستطيع القضاء على تمردهم والانتهاء منهم في مدة اسبوعين أو ثلاثة أسابيع “. واعترضت عليه وقلت له أرجو أن تكونوا أكثر وضوحاً، فموقفكم من هذه المسألة معيار وطني وقومي أساسي، وكلمة إرضاء بعض المطالب لا تكفي ولا تضع حلاً، أما تصور القدرة على الإجهاز على ثورتهم فذلك عين الخطأ، كما وأني أراه مستحيلاً لا في أسابيع بل ولا في أجيال، ومثل هذا التفكير لا يطمئن أبداً. وكان وعده ” خيراً سيكون ” وأقلع مسافراً. وبعد ذلك بأقل من شهرين، كانت محادثات الوحدة الثلاثية في القاهرة. وكان في رفقة الوفد العراقي الرسمي وفد استشاري ملحق من قادة الحركات الوطنية في العراق بينهم بعض القادة الأكراد وعلى رأسهم جلال الطالباني. وخلال محادثات الوحدة، وفي اللقاءات التي كانت تجري على هامشها طرح جلال الطالباني التصور التالي :
إذا كنتم بصدد إقامة اتحاد جمهوريات كصيغة للوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية، فإن مطالبنا كوطنيين أكراد تبقى كما هي، أي أن يكون لنا حكمنا الذاتي في المناطق الكردية في إطار الوحدة الثلاثية، أما إذا كنتم ستقيمونها جمهورية عربية واحدة متحدة، فنحن نريد لو تصبح المنطقة الكردية إقليماً رابعاً بين أقاليم هذه الجمهورية. ولقد كان عبد الناصر كما علمت مرتاحاً لمثل هذا الطرح لما فيه من تطلعات استراتيجية ومنظور مستقبلي يتفق مع تطلعاته ومنظوره، ولقد ظل الطالباني وإخوانه بعد ذلك على علاقات طيبة مع مصر عبد الناصر. إن الوحدة لم تقم لا كاتحاد جمهوريات، ولا كجمهورية عربية واحدة، وفي الواقع فإن المسألة الكردية لم تعترض سبلها في شيء، ولقد ظل عبد الناصر مع كل ما وقع من تقلبات في مواقف الآخرين، حريصاً على أن يظل العراق متماسكاً في وطنيته وموحداً، وظل يسعى بكل إيجابية ليكون هناك وفاق عربي – كردي فيه، ولكنه ظل في الوقت ذاته يؤيد حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه، بل وعندما عادت الصراعات تنفجر دامية في العراق ظل يعمل للوفاق الوطني والقومي فيه، وعندما قام اتفاق السلام بين الأكراد والبعث في 11 آذار عام 1970 على أساس الاعتراف بمبدأ وجود قومية كردية وحقها في أن يكون لها حكمها الذاتي أو استقلالها الإداري في كردستان العراق، وقف عبد الناصر دافعاً إليه ومؤيداً. وكذلك كتبت أنا يومها مؤيداً، ولو أن بعض ” القوميين ” الغفل أو التابعين للأنظمة، وقفوا ينددون بالإجراء العراقي ووصفوه بالتفريط في حق القضية العربية.
لقد وجدتني بحاجة لمثل هذا الاسترجاع للذكريات ومجريات ما مضى حول المسألة الكردية التي نحن بصددها لنتعلم من دروس الماضي، ولنستطيع استيعاب معطيات الواقع الحاضر الذي نتخبط فيه حول هذه المسألة وغيرها لعل هناك من يتلمس من خلالها مخرجاً وطريقاً نحو المستقبل، يخرجنا من دوامة الصراعات التي تستنزف قوانا الوطنية، ويخرجنا من الضياع واللاجدوى.
ويبقى أمامنا الواقع الراهن بوزنه الثقيل، ولا نملك في تعاطفنا مع قضايا تحرر الشعوب، ومع قضية تحرر شعبنا العربي ذاته وما يفرض عليه من تجزئة وانقسام وتابعية، وفي تعاطفنا مع المسألة الكردية كقضية من قضايا تحرر الشعوب، إلا أن نحاول فهم هذه المسألة والتعرف إلى حدودها، وإعطاء وضوح لتطلعاتها وإمكاناتها.
والحق أن المسألة القومية الكردية هي واحدة من المسائل المعقدة في العالم، فهي تتناول من ناحية الحقوق القومية لشعب متواجد كأقليات قومية موزعة في خمس دول متاخمة لبعضها وبينها حدود دولية فاصلة، وهي في الوقت ذاته تحمل تطلعات شعب يطمح إلى أن يكون أمة بين الأمم وأن يكون له كيانه القومي المستقل بين الكيانات القومية في العالم.
قضيته محاصرة بواقعه كشعب شاءت الظروف التاريخية والتحالفات الدولية أن تضعه هكذا موزعاً بين عدد من أقطار الدنيا، بل إن كردستان الأصلية والتي يحددها مؤلف هذا الكتاب في حدودها الجغرافية كأرض وطنية لهذا الشعب، وأياً ما ضيقت عليه هذه الأرض، فإنها تبقى محسومة في التحديات الإقليمية وفي الترتيبات الدولية، أراض واقعة داخل أطر دول مستقل بعضها عن بعض. فقضيته مازالت إذن أسيرة التوازنات والنظام الدولي، كما هي أسيرة للتوازنات والنزاعات الإقليمية، فليس حلها كقضية قومية عامة مرتبطاً بالعراق وحده ولا بالعرب كلهم، إلا في حدود، وإلا كمرحلة على طريق طويلة لم تكتمل معالمها بعد إلا إن كان في تصور بعض من يملكون حساً تاريخياً ومنظوراً تاريخياً للتغيير في هذه المنطقة من العالم وفي العالم.
اقرء ايضا:
الجزء الأول من المقال
الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال
الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال
الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال
الجزء الثامن من المقال
الجزء التاسع من المقال
الجزء العاشر من المقال
الجزء الحادي عشر من المقال
الجزء الثاني عشر من المقال