مقالات

الفيلسوف السوري احمد نظير الاتاسي

فراس م.سعد

الفيلسوف السوري احمد نظير الاتاسي.
فلنعد الى اللحظة السابقة للانفجار العظيم. كل ما نعرفه بالنظرية هو ان الكون كله كان شوربة طاقة لا يزيد حجمها في المكان عن حجم كرة غولف. ولن نقف عند قضية ان الحجم يحتاج الى مكان وانه لم يكن هناك لا مكان ولا زمان. إلحق الكذاب الى وراء الباب. حصل انفجار عظيم لسبب عظيم ايضا لكننا لا نعرفه. كل ما نعرفه هو ان جزءا من تلك الطاقة بدأ يتحول الى مادة. اي جسيمات ذات كتلة. لنفترض ان هذه الجسيمات اختفت حال ظهورها الى الوجود. اذن لعدنا الى حالة شوربة الطاقة. اذن، مرة اخرى، حتى يكون الكون كونا فان على المادة ان تبقى لفترة ما. وهذا هو الوعد الذي يقوم عليه الكون. المادة ستبقى بعض الوقت ثم ستعود الى حالة الطاقة (الحرارة). وهذا هو قانون الترموديناميك الثاني. اسلاميا هو نوع من الارجاء. ولحسن الحظ فقد ظهر مع المادة شيئان ضروريان هما المكان والزمن. وبهذا يمكن ان نقول بان المادة تأخذ حيزا من المكان (ولذلك سماها الاغريق ثم العرب مادة اي تمتد) وحيزا من الزمان. هذا هو كوننا طاقة ومادة ومكان وزمان ووعد بالعودة. بكلمات اخرى. ان وجود المادة ترافق مع وجود عوامل بقائها مستمرة لبعض الوقت. وهي القوى الفيزيائية. والا لما بقي الكون ولعدنا الى الشوربة الاولية. هذا بالضبط ما نسميه السعي نحو البقاء. اي ان الكون والوجود يحتوي عوامل دوامه لبعض الوقت.
وتحت وطأة تلك القوى (التي لا نعرف ما هي) بدأت تظهر تراكمات اكبر واكبر للمادة. فظهرت مكونات النواة الذرية للهيدروجين ثم الالكترونات، وبدأت الذرات بالظهور. الاثقل والاكثر مادة تأخرت اكثر في الظهور. لكن ما يميز كل الذرات التي نعرفها هو انها تبقى على حالها لبعض الوقت، يطول او يقصر. اي ان الذرات ايضا تحتوي على عوامل بقائها. وبالتالي نقول مجازا بان الذرات تسعى الى البقاء. لانها لو لم تحتو على عوامل بقائها لاقتصر كوننا على عدد هائل من نويات الهيدروجين. ان عوامل بقاء النواة تختلف عن عوامل بقاء الذرة.
ثم بدأت مركبات اكبر مؤلفة من بضع ذرات بالظهور. وفي كل مرة يظهر مركب جديد ينجح في البقاء لبعض الوقت تظهر معه قوى وعوامل تكرس هذا البقاء، وهي عوامل مختلفة عن عوامل بقاء الذرات. طبعا ظهرت مركبات لم يكتب لها البقاء فتفككت سريعا لانها لا تحتوي عوامل بقائها. هذه المركبات ليس لها عقل يدفعها للتفكير باساليب للاستمرار. وانما الامر كله هو انها اذا لم تكن تحتوي على عوامل بقائها لبعض الوقت فانها ستتفكك ولن تبقى. ومن هنا نشأت صورة السعي الحثيث للبقاء. لا سعي هناك ولا تدبير ولا هو حثيث ولا له اي صفات. البقاء لبعض الوقت له عوامل تضمنه، وهذا كل شيء.
وفي كل مرة يظهر مركب جديد (المركبات العضوية) يظهر معه عوامل بقائه. بالطبع هناك ملايين المركبات التي ظهرت لبضع ثوان وتفككت لانها لا تملك عوامل بقائها. ويبدو انه كلما كان المركب كبيرا (مادة اكثر) كلما كانت عوامل بقائه اضعف وكلما اصبحت مدة بقائه اقصر. بعض المركبات العضوية قد تحتوي على آلاف الذرات وبالتالي فانها لن تستطيع البقاء لفترة طويلة. وبينما مدة بقاء الذرات ملايين السنين فان مدة بقاء المركبات العضوية بضع دقائق الى بضعة ايام. كان من المفروض اذن ان تتوقف عمليات التركيب المؤدية الى مركبات اكبر حينما تصل فترة البقاء الى اجزاء من الثانية فقط.
لكن ظهرت هنا خاصية جديدة تسمى حلقات الوساطة الذاتية. اي ظهرت مركبات تساعد مركبات اخرى على الظهور. مركب ألف يساعد في ظهور مركب باء، وباء يساعد في ظهور دال وهكذا حتى نصل الى مركب سين يساعد في ظهور المركب ألف. وبهذا تصبح حلقة الظهور مغلقة. اي الف يساعد في النهاية في ظهور نسخة جديدة من الف. الف القديمة تتفكك والف الجديدة تبقى لبعض الوقت وتساعد نسخة جديدة من الف على الظهور. عملية الولادة ادت الى اطالة فترة بقاء المركب ألف من خلال نسخه الى امد اطول بكثير من مدة حياة الف. الحلقات ذاتية الوساطة اصبحت عامل بقاء الف. لكنه نوع اخر من البقاء، انه بقاء النموذج (الصورة) وليس بقاء المادة كما في الذرة. نموذج المركب يبقى من خلال نسخ جديدة وباستخدام مادة جديدة، لكن المادة تتفكك وتعود لتدخل في عملية التركيب من جديد. انه بقاء مجرد لانه صوري وليس جوهري.
هنا تصبح فكرة السعي اوضح اذ ان عوامل البقاء موجودة ضمن منظومة الولادة والاستنساخ وليس ضمن المركب نفسه. وهي عوامل تتحرك في الزمان والمكان. ان منظومة الوساطة الذاتية هي اساس كل شيء بيولوجي حي. ويبدو ان الخلية الواحدة تحتوي على عشرات ومئات من الحلقات المختلفة التي تعيد انتاج المركبات التي تحتاجها الخلية. ان الطريق من الحلقات هذه الى اول خلية طويلة جدا وليست معروفة بالكامل والبحث لا يزال جاريا.
وبعد حلقات الوساطة هذه بدأت تظهر تجمعات لهذه الحلقات تدعم الواحدة الاخرى الى ان ظهرت اول خلية. ونقطة التحول الهائلة في ظهور الخلية هي ظهور مركبات عضوية قادرة على اطلاق عملية ظهور الحلقات. وهذه المركبات هي الحموض الامينية التي تتجمع في كتل هائلة اسمها الجينات. هذه الجينات تحتوي على مخطط لكل العمليات العضوية والمركبات والحلقات الضرورية لعمل الخلية. وعندما يحدث استنساخ هذه الجينات فان الخلية تلد نسخة من نفسها. اذن الخلية هي منظومة قادرة على انتاج نسخ جديدة من ذاتها. اي انها قادرة على البقاء حسب التعريف الصوري الجديد. وكما رأينا فان عوامل البقاء موجودة داخل المنظومة وهي الجينات. لا تستطيع الخلية ان تحيا اكثر من بضعة ايام لكن صورتها او نموذجها او نوعها يستمر في البقاء مع كل ولادة جديدة. عوامل البقاء هي عوامل الولادة. وكل منظومة حيوية اخرى تظهر ولا تحتوي على عوامل استنساخ ذاتها فانها لا تبقى بالمعنى الصوري. ونقول مجازا ان الخلية تسعى للبقاء رغم انها لا تفكر ولا تسعى.
لنفترض الان ان الوسط المحيط بالخلية تغير بحيث عرقل عملية الاستنساخ. فنقول ان الخلية تصارع من اجل البقاء. وهذا مجاز فلا هي تعي وسطها ولا هي تتألم وتكافح. ثم يحدث خطأ في عملية استنساخ الجينات داخل الخلية. هذا الخطأ يسمى طفرة وهو يحدث دائما وبشكل دوري. كل خطأ من هذا النوع يعطي الخلية خاصية جديدة. قد يحدث احيانا ان الخاصية الجديدة تسمح للخلية باستنساخ نفسها تحت الظروف الجديدة. فنقول مجازا انها نجحت في امتحان البقاء او انها تأقلمت. وربما ملايين الانواع من الخلايا لم تكن محظوظة وملايين من الطفرات لم تنجح. اذن الخلايا التي لا تتغير او لا تتغير بطريقة ملائمة للبيئة الجديدة لا تبقى، فنقول فشلت في صراع البقاء او انها لم تتأقلم، رغم انه لا صراع هنا ولا تنافس ولا تعريف للاصلح ولا حتى تأقلم (الفرد لا يتأقلم، لكن النوع يتأقلم، وهو يتأقلم بأن يتغير). الخلية لم تفكر ابدا في تطوير ذاتها. فقط الطفرة الجديدة ساعدت الخلية على الاستنساخ فقلنا عنها انها الاصلح. لكن الخلية تغيرت. النسخة الجديدة لا تشبه تماما النسخة القديمة. فالبقاء هنا جزئي بالاضافة الى انه صوري. نموذج الخلية تطور وانتقل الى الاجيال التالية لكن بجينات مختلفة بعض الشيء.
ويمكن القول ان كل الكائنات الحية الموجودة الآن والمنقرضة ما هي الا محاولات الخلية الاولى للبقاء مع بعض التغييرات. وكما ظهرت ذرات ومركبات من النويات الاولى، فقد ظهرت عضيات وكائنات مختلفة من الخلايا الاولى. ومع ظهور كل صورة جديدة فانها تحتوي على عوامل بقائها اي استنساخها. مجازيا، كل صورة جديدة تسعى للبقاء لكن بطرق مختلفة. وكذلك كل الانواع البشرية (الهومو) تحتوي على عوامل بقائها. وبما ان الصورة او النموذج او النوع محتوى في الجينات فاننا نتحدث اليوم عن بقاء الجينات. وهي فكرة صعبة التخيل اذ ان الجينات لا تفكر ولا تسعى ولا تخطط. لكن هذا التصور يساعدنا كثيرا على فهم المنحى الذي يسير فيه التطور. انها وسيلة للتفكير وليست تفسيرا سببيا.
وهناك نقلة نوعية في التفكير دفعت باتجاه التركيز على الجينات. اذا تحدثنا عن بقاء النوع فانه من الممكن نقل هذا الحديث بكامله الى بقاء مجموعة معينة من الجينات. ان كل قطة جديدة تساهم في بقاء نوع القطط. اي ان كل عملية نقل للجينات القططية من قطة الى اخرى هو نجاح في بقاء نوع القطط. لكن يبدو ان الامر اعقد من ذلك. ان اية ولادة جديدة للقطة سين هي نجاح في بقاء جينات سين والتي هي جزء من حوض اكبر هو جينات النوع القططي. اي اننا نتحدث هنا عن بقاء النوع وبقاء الفرد. وقد رأينا ان عملية البقاء اصبحت صورية وجزئية. اي ان البقاء يطال نسبا مختلفة من الجينات. مع كل قطة جديدة يبقى النوع مع تغييرات طفيفة (اي تبقى معظم الجينات)، لكن ايضا مع كل ولادة من القطة سين فان نصف جينات سين تنتقل وتبقى. اي ان النوع يبقى بنسبة ٩٩ بالمائة والفرد يبقى بنسبة ٥٠ بالمائة. والواحد بالمائة هي طفرات تسمح بالتأقلم مع البيئات الجديدة.
اي ان هناك منحى لتطور الكائنات. انه منحى البقاء (الصوري والجزئي). الكائنات تتطور بحيث تستمر. وبهذا يمكننا ايضا ان نتحدث عن تطور النوع البشري. لكن عملية التطور والبقاء ستتعقد. عند الانواع البشرية وحتى ما قبلها من الرئيسات (القردة الكبار) هناك بقاء للنوع وبقاء للجنس وبقاء للجماعة وبقاء للفرد. البيئة تؤثر في بقاء النوع، والرجال يؤثرون في بقاء النساء والعكس صحيح، والجماعة الكبرى تؤثر في بقاء الجماعات الصغرى، والجماعة الواحدة تؤثر في بقاء الفرد. اي ان كل حوض صغير من الجينات يسعى لبقاء ذاته. هناك حوض النوع، وحوض الجماعة، وحوض الجنس، وحوض العائلة، وحوض الفرد. كل استراتيجية جديدة تسمح بالاستنساخ الجزئي لاي حوض فانها تدخل في جعبة ادوات البقاء. وكما رأينا فان كل كائن جديد يظهر فان عوامل بقائه تظهر معه. وهي عوامل (قوى، ادوات، استراتيجيات، سلوكيات) تختلف باختلاف الكائن.

 


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه:

تم كشف مانع الإعلانات

رجاء تعطيل مانع الإعلانات لكي تدعم موقعنا شكرا