ها هي الشمس تغرب وتعكس أشعتها البرتقالية المبهجة على تمثال الأشرعة البيضاء ، أو تمثال عروس البحر كما تحب أن تطلق عليه داليا ، وقفت داليا -في يوم صيفي- في نافذة منزلها بمنطقة الشاطبي تطل على التمثال المتواجد في حمى مكتبة الإسكندرية الجديدة في الأزاريطة وتذكرت كلام أمها –رحمها الله- : حي الأزاريطة حيث عاشت الملكة كليوباترا وولد حبها الكبير مع مارك انطونيو ، وفي جوار هذا المكان جرت موقعة أكتيوم البحرية وهزموا سويا،وكان هناك أيضا الحي الملكي البركيون الذي كان يضم مكتبة الإسكندرية القديمة والمجمع العلمي الموسيون اللذان استمرا منارات للعلوم حتى عام 272 م، عندما أحرق الإمبراطور أوريليان الحي بأكمله بما فيه من معابد ومقابر ملكية. حي الأزاريطة أيقونة سكندرية يقع ما بين محطة الرمل وحي الشاطبي وفي شوارعه وأزقته عبق التاريخ وفيه أهم معلم من معالم الإسكندرية السياحية–تمثال الأشرعة البيضاء-للنحات المصري الفنان فتحي محمود(1) أمام القبة السماوية لمكتبة الإسكندرية- يقف التمثال وكأنه يعلن عند مقامه : بداية حي الأزاريطه .. التمثال يوحي لنا بقصة خلق الإسكندريه من خلال أسطورة قديمة عن إله البحر الذي يتمثل أحيانأ في هيئة ثور قد أحكم قبضته على فتاة جميلة-عروس للبحر- ترمز الى الإسكندرية .. حاول البعض تفسير شكل التمثال، فقالوا إنه هو تمثال زيوس فى هيئة الثور وأوروبا الجميلة التى استسلمت له، أما الأشرعة فهى العبور فى الزمن والمكان إلى فضاء العظمة فى التاريخ، واللون الأبيض هو النور الذى تبادلته الإسكندرية مع أوروبا. انتصب تمثال الأشرعه في عام 1968م وسمي أيضا تمثال السلسلة نسبة إلى مكان وضعه حيث وضع على نتوء قديم عرف برأس لوكياس ويتميز النتوء بسلسلة طويلة من الصخور وقد اكتشفت بقايا أسوار الإسكندرية الإغريقية تحت مياه السلسلة كما عثر على بقايا عمدان وتيجان وعملات فضية.. كان بينها وبين التمثال رحلة وحكاية حياة ، أطلقت عليه اسم تمثال “عروس البحر” ،وكم وقفت أمامه تتسائل وهي طفلة :كيف للثور الحيوان الأرضي أن يأسر عروس للبحر ؟ هو لا يستطيع السباحة وهي لن تطيق العيش على الأرض بدون ماء!! وكم تضاحكت أمها على كلماتها هذه قائلة : إنها الأساطير يا حبيبتي والأساطير كلها خيال ولكنهم يعتقدونها حقيقه، فالثور كما شرحت لك قبلا يكون أحيانا في الأساطير اليونانية إلها للبحر.. لا تبالي بالتفاصيل من أن الثور لا يسبح أو أن عروس البحر لا تستطيع العيش خارج الماء ،اسبحي بخيالك وتخيلي أنهم في هذه الأزمنة كان لديهم من الخوارق ما يجعلهما يلتقيان. إنه مثل أسطورة أيزيس وأوزوريس هل هي في رأيك حقيقة؟ هل جمعت إيزيس قطع جسد أوزوريس؟ تنظر داليا إلي امها لتقول : أحب أن أتخيله وأن أظنه حقيقة. عاد الماضي إليها وكأنه صفحات كتاب تطالعه أو تردده غيبا كانت تنصت لأمها بشغف حتى وهي لا تفهم معظم ما تقوله ولكن كلما مضى بها العمر واستعادت الكلمات كلما تفتحت مداركها كانت أمها أستاذة للتاريخ أرضعتها عشق الإسكندرية مع حليبها وعلمتها تاريخ مصر والعالم وهي طفلة صغيرة فنشأت على حب الأوطان ،وكان أبوها مهندس يعمل في دولة أوروبية انفصل والديها وهي طفلة لا يتعدى عمرها العامين وأصر على أن تدرس طفلته في أوروبا فكانت تمضي الصيف مع أمها أما الشتاء فكانت تمضيه مع أبيها وكانت تطلق على هذه المرحلة : رحلة الشتاء والصيف. رفضت امها الزواج ثانية إذ أنها كما قالت لابنتها: أنا تاريخية عتيقة ضللت طريقي فوصلت لهذا الزمان خطأ وحينما تزوجت فشلت لربما لأنني أعيش الماضي والتاريخ الذي أعيش بين جنباته يعيدني إلى بيتي القديم وفيه راحتي ويكفيني أنت صلتي الوحيدة بهذا الحاضر. أما الأب فقد تزوج بأجنبية وأنجب منها وكان سعيدا راضيا بحياته كما قال لابنته: أحيانا نختار فيكون اختيارنا خاطيء وحينما تزوجت فشلت وكنت أنت ثمرة هذه الزيجة ويكفيني أنت من حياة ندمت عليها. ظلت داليا لسنوات وسنوات تعامل كالغريبة أو الضيفة في بيت امها وفي بيت ابيها حتى انتهت من دراستها الثانوية وصممت على الالتحاق بالسوربون وهناك كانت تنهل من التاريخ فامتزج تاريخ أوروبا بتاريخ جذورها وأطلق عليها الزملاء والأساتذة اسم : كليو تصغيرا لكليوباترا كانت تذهب إلى والدها وأسرته في أجازة الكريسماس ورأس السنة الميلادية مكتفية بقضاء اسبوع أو إثنان معهم لكي تعود إلى أمها صيفا وإلى اسكندريتها الحبيبة تفوقت دراسيا وكان ينتظرها مستقبل واعد بفرنسا إلا أنها لملمت تاريخها الحاضر وحملت حقائب سنواتها الماضية عائدة إلى بلادها وضعت كل ما لديها من علم بين أيدي أهل التاريخ فاختاروها للعمل بمكتبة الإسكندرية لتكون همزة وصل بين فرنسا ومصر وبعدما استقرت في بيت امها شعرت وللمرة الأولى أنها لم تعد ضيفة بل صاحبة بيت وفي إحدى المؤتمرات الخاصة بالحضارة السكندرية؛ قابلت زوجها ، أو زوجها السابق وانطبق عليها المثل الشعبي “اكف القدرة على فمها تطلع البت لامها” ولكن هنا كان الحال معكوسا إذ أن تربيتها وثقافتها الأجنبية وقفت حجرعثرة بينها وبين زوجها ، بدأت المشاكل تزداد كاشفة عن هوة مجتمعية بينهما فجاء الإنفصال في هدوء وحملت داليا حقائبها وابنة ذات عامين وعادت إلى بيت امها.. حيث عاشت وامها وابنتها في بيت يموج بالحب والدفء بيت فيه ثلاثة من العصور كما كانت تداعب امها وحرصت على أن تعلم ابنتها أن تحب الماضي وهي تعيش الحاضر وتتطلع إلى المستقبل ومن العجيب أن والدها وأسرته هاموا حبا بابنتها وكان الأب يرسل إليهما تذاكر الطيران عدة مرات في العام ، وللمرة الثانية تشعر داليا أن البيت وأصحابه يرحبون بها كصاحبة له وليست كضيفة كما كانت تشعر في الماضي ، وعندها أيقنت أن هذا الشعور لم يكن سوى حساسية زائدة منها وعدم استقرار وأن الأهل يحبوننا ولكننا أحيانا نخطيء في تفسير الكثير من الأشياء .. وفي ليلة خريفية ماتت أمها في هدوء بلا مقدمات مرضية ، ماتت وهي نائمة بعدما أمضت ساعات تتحدث إليها عن رحلتي الحياة والموت وتنصحها بأن لا تترك نفسها للعيش وحيدة بين جنبات التاريخ وتكرر ما فعلته هي، وأن تفتح باب قلبها لحب جديد فالمرأة والرجل خلقا للتألق سويا ولتتذكر جداريات الفراعنة وكيف كانت المرأة تقف إلى جوار زوجها فشاغبتها داليا قائلة : ولنتذكر مولاتي الحبيبة التاريخ وشجرة الدر وكيف قتلت ضربا بالقباقيب .. سبحت داليا في سماء الغروب المتوهجة بالألوان متسائلة: لماذا نعشق الغروب متجاهلين الشروق؟ لم نحب النهايات وفي البدايات كل الحلول؟ كيف ننساق وراء خيال قلوبنا ونتناسى واقع العقل ؟ القت نظرة أخيرة مودعة على شمس المغيب وعلى تمثال عروس البحر وهو يرنو إلى مكتبة الإسكندرية موليا ظهره إلى البحر ، وقررت بيع شقة امها لأول مشتر على أن تبحث عن بيت جديد تطل نوافذه على شروق الشمس، ربما في أبي قير حيث عبق التاريخ وجزيرة نيلسون ضحكت على تفكيرها للرحيل من ماض إلى ماض آخر وفكرت في بيت على شاطيء المعمورة حيث يجمع الشاطيء بين رحلتي الشروق والغروب سويا ثم أدارت خاتم خطبتها كما تفعل دوما كلما ذهب فكرها هنا وهناك ،وتذكرت أن قرارها لم يعد لها وحدها فهناك ظل لها أو شريك حياة عليها أن تتشاور معه في الأمر ولربما كان قلبه هو شروق جديد لها في الحياة ولا معنى لتغيير البيوت. (1) فتحي محمود (1918 – 1982)، هو نحات وخزاف مصري راحل ، يعد أحد تلاميذ محمود مختار. من أشهر أعماله تمثال ميدان طلعت حرب في القاهرة، و تمثالي: الأشرعة البيضاء وتمثال أوروبا الموجود بمكتبة الإسكندرية، والنصب التذكاري لشهداء طلاب جامعة القاهرة عام 1955، حصل على الميدالية الفضية من معرض بروكسل الدولي عام 1958، وتوفي عام 1982 – ويكيبيديا
مبدعة دوما اديبتنا الرائعة
معلومات تاريخية قيمة وأساطير تمتزج بواقع يعيشه الكثير
سلمت اناملك