في اليوم الرابع من شهر مارس كانت الدراسة بالفصل الدراسي الثاني في الجامعة قد بدأت منذ شهر تقريبا، وبدأ دكتور وليد الشرقاوي في إحدى محاضراته متابعة التكليفات مع طلاب الفرقة الرابعة في كلية الاقتصاد وأثناء توجيه الطلاب جاء في يده تكليف بعنوان “الأجور والمرتبات معضلة الاقتصاد المصري” فأشاد به كثيرا ثم نادى على الطالبة فاطمة أحمد سليمان الدكروري، فجاءت الطالبة وعندما نظر إليها دكتور وليد لازمه الصمت برهة ثم تساءل قائلا أنت ابنة أحمد سليمان الدكروري، فأجابته فاطمة بدهشة وقلق نعم يا دكتور فتبسم دكتور وليد لا داعي للقلق يا بنيتي والدك من أعز أصدقائي وكنا جيران لأكثر من عشرين عاما في حي العباسية, ثم اختتم حديثه لها ” أحسنت في التكليف وأرجو منك أن تأتي إليّ في المكتب بعد المحاضرة لكي أطمئن على والدك.”
دخلت فاطمة مكتب الدكتور وليد الشرقاوي وأذن لها بالجلوس ثم قال لها أنت قمت بمجهود يستحق التقدير في التكليف الخاص بك وأن شاء الله تصبحين أستاذة كبيرة تكملي المسيرة من بعدنا، ثم صمت لحظة ثم تحدث مبتسما قائلا أنت تشبهين كثيرا عمتك فاطمة رحمة الله عليها وكيف حال والدك الآن، صمتت فاطمة لحظات ثم قالت وبدا على وجها ملامح الحزن “والدي توفى العام الماضي “فشهق دكتور وليد ثم أخذ يردد عدة مرات (لاحول ولا قوة إلا بالله، الله يرحمه) ثم قال لها آسف يا بنيتي إذا كنت ذكرتك بهذا الأمر ولكن هذا حال الدنيا كلنا سوف نلقى وجه الله في يوم من الأيام، وبعد لحظات صمت قاسية قال دكتور وليد بنيتي أنا من اليوم أستاذك وأبيك ثم سألها متى وكيف حدثت الوفاة، فقالت فاطمة وهي تقاوم دموعها لقد كان أبي يحبني كثيرا دون باقي أخوتي ودائما ما كان يناديني “بالأستاذة فاطمة” ولكن في العام الماضي أثناء صيانة كهرباء المنزل صعق أبي بالتيار الكهربائي ومات وهو يردد “سامحيني يا فاطمة” ثم تشهد الشهادتين ولفظ أنفاسه الأخيرة ثم انهارت الدموع من عين فاطمة بغزارة.
بعدما انصرفت فاطمة من مكتب دكتور وليد الشرقاوي جلس قليلا يفكر في حديثه مع فاطمة لكن قطع رنين هاتفه المحمول حبل أفكاره فرد وكانت زوجته على الهاتف وتذكره أن اليوم عيد الميلاد العاشر لإبنته ويجب عليه ألا يتأخر عن العودة للمنزل اليوم، فرد عليها وليد ومين يقدر ينسى عيد ميلاد فاطمة ثم ودعها ، وأثناء عودته أخذ يستمع لأغنيته المفضلة على قلبه “مين ما يحبش فاطمة“.
أحتفل دكتور وليد وزوجته بعيد ميلاد ابنتهما فاطمة العاشر مع الأهل والأصدقاء وقدم وليد لإبنته هديتها مع قبلاته الأبوية لها، وبعد إطفاء الشمع دخل وليد مكتبه وجلس يسترجع ذكريات أكثر من خمسة وعشرين عاما مضت.
ترجع البداية عندما كان وليد في الصف الثالث الثانوي، وكان في ذلك الوقت يقيم في حي العباسية وكان كل يوم هو وجارته “فاطمة سليمان” وكانت أقرب إلى أن تكون شقيقته يذهبان لتلقي دروس التقوية بمسجد الصديق بشارع القره قول حيث أنهما تربيا معا في بيت واحد وكانت العلاقات الأسرية في منتهى الود والمحبة.
وفي إحدى المرات في أثناء فترة اجازة منتصف العام الدراسي قالت فاطمة لوليد بأن جارهم المهندس عادل مدحت الذي تخرج في العام الماضي طلب أن يحدثها على انفراد أكثر من مرة في أمر هام وهي محرجة جدا منه حيث أن الأسرتين من بلدة واحدة وأن طلبه غريب وغير مفهوم خاصة إنها تجلس مع والدته كثيرا في منزلهم فلماذا يريد أن يتحدث معها على انفراد، فأقترح وليد عليها أن يتم اللقاء على سطح المنزل أثناء اطعامها للطيور التي تربيها أسرتها على سطح المنزل وكانه لقاء عابر بين الجيران وتعرف منه ما يريد منها بدلا من الذهب معه إلى مكان بعيد خوفا من يراهم أي شخص وخاصة أنها من أسرة صعيدية محافظة جدا.
بعد يومين ألتقت فاطمة بالمهندس عادل مدحت على سطح المنزل في حديث لم يستغرق أكثر من عشر دقائق، وبدأ عادل حديثه مادحا في أخلاق فاطمة وأنها مثال للبنت المهذبة وأخذ حديثه بعد ذلك مغازلا في جمال فاطمة وأن حبه قد أستقر في قلبه وأنه يريد أن يعرف رأيها قبل أن يتحدث مع والدها، ولكن فاطمة مثل كل البنات في مثل سنها تحلم بفارس أحلامها ومواصفاته ولكن عادل قطع تفكيرها بسيل من القبلات على وجنتيها، ولكن فاطمة قاومته بخجل وهي تنهاه عن ذلك فأعتذر عادل عن ذلك متعللا بأن حبها قد أمتلك قلبه وأنه لم يدري بنفسه، وفي نهاية الحديث طلبت منه فاطمة أن يتركها تفكر في هذا الأمر حيث أنه فاجأها بذلك الطلب.
في مساء ذلك اليوم تحدثت فاطمة مع وليد وأخبرته بكل ما حدث من عادل معها على سطح المنزل وهي لا تعرف ماذا تفعل، فقال لها وليد سوف أتحدث مع والدتك أنا غدا بعد المغرب وكأن المهندس عادل تقدم لشقيقة أحد أصدقائي.
في مساء اليوم التالي تحدث وليد مع والدة فاطمة ولكنها وأخبرته بشئ مزعج عن أسرة المهندس عادل مدحت جارهم في المنزل، حيث ذكرت له أن جد المهندس عادل كان قاطع طريق كما أنه والده كان يتاجر في السلاح وهذا سبب وفاته ولكن الطامة الكبرى عندما ذكرت له أن السيدة نرجس والدة عادل كانت راقصة (غازية)، وقالت والدة فاطمة لوليد لو صديقك يعز عليك قل له يصرف نظر عن هذا الشخص (عادل)، صمت وليد فترة ثم قال لها عندك حق العرق يمد لسابع جد.
في اليوم التالي أتفق وليد مع فاطمة على الاعتذار لعادل نظرا لأن والدها وعد أبن عمها بالزواج منه حتى لا تجرح مشاعر عادل.
بعد يومين التقت فاطمة بعادل على سطح المنزل واعتذرت له نظرا لأن والدها وعد أبن عمها بالزواج منه وهي لا تستطيع أن تعصي أمر والدها، ولكن عادل فاجأها برده لها بأن هذا كلام غير منطقي حيث أن أبن عمها أصغر منها بأربع سنوات، وأصر عادل على معرفة الحقيقة فقالت فاطمة تحت تأثير إلحاح عادل على الحقيقة كما قالتها أمها ثم أنصرفت.
دخل المهندس عادل شقته وهو في حالة من الشرود ثم جلس يبكي كثيرا حتى أشفقت عليه والدته وقامت إليه مسرعة وهي تحنوا عليه وتحدثه بني ما بك ماذا حدث، فجلس عادل يستجمع قواه وحكى لأمه ما قالته له فاطمة وأخبرها بأنها يحبها حبا جارف ولا يستطيع أن يعيش بدونها وأنه يفضل الموت على الحياة بدونها، ولكن والدته أمسكت بخصلة من شعرها وهي تقسم بشعرها والله لأخليهم يأتون إليك يقبلون قدميك لكي تقبل بالزواج من المحروسة أبنتهم وسوف يرون “شغل الغوازي“.
وبعد أسبوع لاحظ وليد تغيب فاطمة عن الحضور إلى دروس التقوية معه في المسجد كما هو معتاد منذ بدأت الدراسة، وبعد عودة وليد من دروس التقوية ذهب إلى شقة فاطمة وطرق على الباب وبعد لحظات فتح والد فاطمة الباب وكانت في وجه ملامح الغضب والحزن في وقت واحد، سلم عليه وليد وسأله عن فاطمة وأنها تغيبت عن الدروس فجاء يطمئن عليها، وكان على غير المعتاد تحدث والد فاطمة مع وليد على الباب ولم يدعوه للدخول كما هو المعتاد وقال والد فاطمة إن فاطمة مريضة كما أن عمتها معها هي ووالدتها وأعتذر من وليد نظرا لوجود ضيوف من البلد لديه ثم أغلق الباب في وجه وليد بصلف شديد، وتعجب وليد من تصرف والد فاطمة معه ولكنه عاد إلي شقته.
في اليوم التالي أثناء ذهاب وليد إلى دروس التقوية شاهد وليد فاطمة في الشارع وقد بدا وجهها شاحبا وكانت بصحبة والدها وعمتها فأقبل وليد عليهم وسلم عليهم لكي يطمئن عليهم وسألها إلى أين أنت ذاهبة وهل مازلت مريضة، فنظرت إليه فاطمة بنظرات غامضة لم يفهما وليد وقالت بصوت حزين وضعيف ذاهبه أساعد عمتي في الغسيل (حيث بيت عمتها في الشارع المجاور لهم)، ومضى وليد إلى المسجد لكي يحضر درس التقوية ولكنه كان مندهشا كيف كانت فاطمة مريضة وتذهب لتساعد عمتها في الغسيل وما دور والدها في هذا الأمر لكي يذهب معهم ولكنه وجد نفسه أمام المسجد فدخل لحضور درس التقوية.
أثناء عودة وليد من المسجد وجد حركة كثيفة للجيران بالقرب من بيته مع وجود سيارتين إطفاء وسيارة أسعاف، كما لفت نظر وليد وجود سيارة أسعاف أخرى بالقرب من منزل عمة فاطمة في الشارع المجاور لهم، وكانت المفاجأة عصيبة على وليد فلقد علم أنه بعد ذهابه إلى درس التقوية شب حريق في شقة جارهم المهندس عادل أدى إلى أختناقه هو والدته ثم سرعان ما أمسكت النيران بأثاث المنزل وأحترقت شقتهما وتفحمت جثتي المهندس عادل ووالدته، وكانت المصيبة الكبرى أن توفت فاطمة متأثرة بالتيار الكهربائي وهي تدير غسالة عمتها، وسقط وليد مغشيا عليه من هول المفاجأت التي حدثت في أقل من ساعتين.
أفاق وليد على سريره ليجد والداه بجواره ويخففون عنه هول الصدمة وظل وليد يردد كيف حدث هذا لقد كنت معهم منذ ساعتين كيف حدث، فأخذ والده يهدأ من هول الصدمة بأن هذا قضاء الله وقدره وأن الموت يأتي بغته.
ظل وليد حزينا فترة طويلة بعد الحادث، وبعد شهرين حدث أمرا غريبا لقد توفت عمة فاطمة صعقا بالكهرباء وهي تستخدم غسالتها، ولم يجد وليد تفسيرا لهذا الأمر سوى أن هذه الغسالة أصبحت فأل شؤم على هذه الأسرة المسكينة، وأنتهت السنة الدراسية ونجح وليد بتفوق وجاءت بطاقة الترشيح الخاصة به إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وكان وليد وأسرته سعداء بذلك ولكن وليد تذكر فاطمة فقرأ على روحها الفاتحة فقد كان يعتبرها هي وأخوها أحمد أشقاء له حيث أنهم تربيا معا وكانت لهم زكريات طفولة جميلة.
وبعد مرور عام على وفاة فاطمة حدث أمر مفجع لأسرة فاطمة حيث صعق والدها بالتيار الكهربائي أثناء أستبداله لأحد مصابيح بيته ومات على الفور، وكان هذا الأمر مثير للجدل بين الجيران حيث في عام واحد فقط مات ثلاثة أفراد من هذه الأسرة صعقا بالكهرباء.
وقفت أسرة وليد بجوار أسرة المرحومة فاطمة في هذا الحادث الأليم، وبعد انتهاء العزاء بدار المناسبات رافق وليد أحمد شقيق فاطمة إلى المنزل حيث كان في حالة يرثى لها، وبعد قليل أخذ وليد أحمد إلى غرفته وأغلق باب غرفته جيدا وطلب منه أن يفسر له سر هذه الحوادث ولماذا الموت صعقا بالكهرباء، أخذ أحمد يبكي كثيرا وهو يردد هذا ذنب فاطمة لم تجد من يرحمها حتى أنا وأجهش في موجة عارمة من البكاء، وبعد قليل قال أحمد لوليد أتعدني بأن ما سأحكيه لك سيبقى سرا بيننا إلى الأبد ولن يعرفه حتى والديك فطمأنه وليد وأقسم على كتاب الله بأن ما سوف يحكيه سيظل سرا إلى الأبد، فأعتدل أحمد وقال لقد تعرضت أختي فاطمة لحادث أغتصاب من المهندس عادل فلقد أستدرجتها والدته لمساعدتها في بعض أمور المنزل وأعطها كوب كركديه على سبيل الضيافة وكان به قرصين هلوسة وبالتالي كانت فاطمة فاقدة للوعي والأدراك وقام عادل بأغتصابها وقامت أمه بتصويرها بالفيديو ونتيجة لتأثير أقراص الهلوسة ظهرت فاطمة كأنها فتاة ليل تفعل كل شئ بإرادتها وبعد ذلك قام عادل بأعطائها نسخة من شريط الفيديو وصعقت فاطمة مما رأته فلقد كان بشعا وأنهار أحمد في البكاء من جديد، حاول وليد تهدئة أحمد لكن كان الأمر صعبا عليه وبعد نصف ساعة تقريبا أستكمل أحمد حديثه قائلا وكما تعلم نحن أسرة من الصعيد وما حدث كان بالنسبة لنا عار كبير فاستدعى أبي أشقائه وتم تدبير حادث مصرع المهندس عادل ووالدته كأنه قضاء وقدر وتم صعق فاطمة بالكهرباء في ذراعها بحيث يبدوا الأمر كأنه قضاء وقدر أيضا دراء للعار والفضيحة وتم حرق شقة عادل بحيث تخفى معالم الجريمة وأتلاف اي نسخ من شريط الفيديو في حالة أحتفاظه بنسخة أخرى بشقته، ولكن وليد سأله هل كنت تعلم بما كان يخطط لفاطمة فأنهار أحمد مرة أخرى في بكاء شديد وهويردد نعم ولم استطع فعل شئ.
بعد حديث وليد مع أحمد قام وليد بتوصيله لشقته، وعند عودته قال له والده خيرا ما فعلت يا بني فأحمد كان حزينا جدا على وفاة والده، فرد وليد الله يرحمهم جميعا ثم دخل إلى غرفته وبكى كثيرا حيث تذكر نظرات فاطمة الأخيرة له عندما قابلها في الشارع ولم يفهمها جيدا فلقد كانت تستغيث به ولكنه لم يدرك ذلك، واخذ وليد يترحم على فاطمة ضحية أصنام المجتمع (الأفكار والعادات والتقاليد المرتبطة بالعصر والفكر الجاهلي) فلم تجد من يرفق بها وهي الضحية البريئة وتذكر وليد قوله تعالى في سورة التكوير “ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)“.
تنبه وليد فجأة ليد زوجته وهي تربت على كتف وتهمس له في أذنه لماذا تركت حفل عيد ميلاد ابنتنا فاطمة وتجلس هنا وحدك أنها تسأل عنك الأن و لفت انتباه الزوجة الدمعة التي في عيني وليد فقالت له ” وليد ماذا حدث” ، فقال لها لا شئ أنها دموع الفرح لقد كبرت ابنتنا اليوم وبلغت عشر سنوات كما أن قرار ترقيتي إلى درجة أستاذ دكتور جاء اليوم فكانت الفرحة فرحتين فلم أستطع أمساك دموع الفرح، ثم خرجا وشاركا ابنتهما فرحتها بعيد ميلادها.
قصة غاية في الروعة و يبدو أن الكاتب مبدع للغاية
عافاكم الله، وزادكم معرفة
شكرا على المشاركة والمتابعة