كان لي من العمر آنذاك ثلاثة عشر عاماً وبضعة أشهر، وقد حدث ذلك صيف عام 1974، ولم أكن قد استلمت بطاقة هويتي بعد، إذ كان ما يزال يلزمني لذلك نحو ثلاث أرباع السنة، كي أنال هذا (الشرف)، أي أنـَّـني كنت طفلاً بكلِّ معاني الكلمة.
ومع ذلك، ورغم أنـَّـنا في العائلة لم نكن بعوز ماديٍّ، ورغبة من أهلي في أن أعرف قيمة العمل، فقد باشرت الشغل مع مـُـعلـِّـم البلاط (سليمان حلال) وهو الابن الأكبر لرفيقنا النقابي (جبران حلال) وزوجه رفيقتنا (فضة)، وكان يعمل معه في ورشته مـُـعلـِّـم تبليط آخر من أهل القصـَّـاع لم أعد أذكر اسمه.
أسبوع عملنا الأول كان في منطقة مرج السلطان، في منشأة تابعة لمؤسسة تنفيذ المشاريع العسكرية (متاع)، وكانت مهمتنا أن نبلـِّـط أرضية مخبر كيميائيٍّ بالبلاط، وجدرانه بالبورسلان.
ومن عمل برصف البلاطات البورسلانية على الحيطان، يعلم بكلِّ تأكيد أنَّ البورسلان يـُـنقع على أقل تقدير مدَّة يوم قبل لصقه بالطينة على الحائط..
عملت الأسبوع الأول من الصباح الباكر إلى ما بعد الظهر، وكنا نلتقي عند الموقع، الذي صار فيما بعد مدخل سوق الهال الجديد من جهة القصـَّـاع، لنركب شاحنة زيل عسكرية، نـُـحشر فيها مثل الغنم في الخلف مع عدَّة الشغل وزوَّاداتنا، فتنقلنا إلى حيث موقع عملنا، وهو مكان محاط بحراسة شديدة، فيفتشنا الحرَّاس عند مدخله لدى دخولنا ولدى خروجنا.
نهاية الأسبوع، وكان أسبوعنا ينتهي يوم الخميس، والجمعة هو يوم العطلة الوحيد آنذاك، وقبل المغادرة، طلب مني مـُـعلـِّـمي سليمان أن أنقع صناديق البورسلان التي سنستخدمها الأسبوع القادم في براميل مياه موضوعة هناك خصيصاً لذلك، ففعلت، وغادرنا المكان مع بقية العمال مشحونين بالزيل كالغنم مثلما جئنا، لتفرغ محتواها منا حيث التقطتنا في الصباح.
يوم السبت التالي عدنا إلى مقرَّ عملنا، وحين أردنا أن نباشر مهامنا بالتبليط، تفاجأنا بأنـَّـه لا وجود لأيِّ صندوق من صناديق البورسلان المنقوعة، ولا لغيرها من الصناديق المخزَّنة هناك.
كان الأمر خارج نطاق حسابات الجميع، ولأنَّ سليماناً هو المسؤول عن ورشة البلاط، فقد هرع لإبلاغ الضابط المسؤول عن المنشأة، فكان أن أصدر ذلك الآمر تعليماته إلى عساكره بزجنا جميعاً في السجن، وأن نـُـرفع فلقاً جميعنا إلى أن نعترف بأنـَّـنا نحن من سرق صناديق البورسلان المفقودة.
ما أذكره تماماً، هو أنـَّـنا بقينا مسجونين منذ الصباح إلى حين الانصراف بعد ظهر ذلك اليوم، والتهديد بالويل والثبور يطاولنا كلَّ الوقت في حال إنكارنا أنـَّـنا الفاعلون، وكان سليمان يـُـستدعى إلى عند الضابط المسؤول بين الفينة والأخرى لممارسة مزيد من الضغط عليه.
كانت التهمة الموجهة إلينا غير منطقية إطلاقاً، فصندوق البورسلان الواحد طوله متر ويزن نحو عشرين كيلوغراماً، وبعد نقعه بالماء يزداد وزنه، وعند حواجز التفتيش لا يمكن لذبابة أن تمرَّ دون موافقة، كما أنَّ إخراج مثل تلك الكمية من بورسلان المخابر كان بحاجة إلى شاحنة متوسطة الحجم، وهي لا يمكن أن تنقل في الجيب أو على الظهر، خصوصاً إن علم المرء أنَّ تلك المنطقة كانت نائية وتبعد كيلومترات كثيرة عن أقرب مكان مأهول، أي أنَّ دود الخل من القائمين على حراسة المكان وأمنه، والفاعل ينبغي أن يكون كبيراً بما يكفي كي يفعل فعلته، ويلصقها بغيره.
مناسبة قصتي هذه بسيطة جداً، وهي ارتقاء الحاج التقي الصالح أبو الهمم شاليش إلى السماء السابعة، والذي هو بالمصادفة البحتة شقيق الحاج الأتقى والأكثر صلاحاً، المدعو رياضاً، والذي كان لسنين طويلة مديراً عاماً مزمناً لتلك المؤسسة.