اليوم اَخر يومٍ من أيام الامتحان.
بدأ الامتحان يوم بدأت حرب الخامس من حزيران .
أردنا ، صباح ذلك اليوم، ألَّا ندخل الى القاعات ، فخاطبنا المدير : وماذا ستفعلون ان خرجتم، الاَن، من هنا؟ قال الواقفون في الصفوف الأمامية: هل يخوض العرب حرب تحرير فلسطين، ونحن نعمل امتحان!؟ نريد أن نشارك في حرب التحرير ، وندخل فلسطين مع جيوشنا الباسلة ، و… قاطعهم ، وهو يبتسم: تشاركون في حرب التحرير !؟ كيف!؟ رأيي أن تدخلوا فلسطين ، وأنتم ناجحون ، وأنتم معلِّمون … اصبروا أياماً معدودة ، بعد أن صبرنا أعواماً طوالاً…
لاأعرف ، الاَن، ان كان ذلك المدير يسخر أم كان يقول ماهو مقتنع به.
طال الحوار ، وانتهى باقناعنا بالدخول ، واجراء الامتحان ، وبعد ذلك نحن أحرار نفعل مانشاء.
كنا نكتب الاجابات، واَذاننا مصغية الى الاصوات الاَتية من الخارج ، من مكبِّرات الأصوات التي تصدح بالأناشيد والتعليقات الحماسية ، ونشرات الأخبار التي تزفُّ بشائر النصر…
وأنا، اضافة الى ذلك، كنت مشغولاً بأمور شتى…
أستعيد ماكنَّا نفعله
، في الليل ، ونحن نراجع دروسنا، ونسمع بيانات اسقاط طائرات العدو من اذاعاتنا ، كنا نسمع البيانات والأناشيد والتعليقات، والبعوض يحوِّم فوق رؤوسنا…
كان الواحد منَّا، بين الحين والاَخر، يضع الكتاب جانباً، وينهض ويصفِّق طويلاً لما يسمع ، ويسقط، بين كفَّيه، عدداً من الحوَّامات التي كانت تئزُّ فوق رؤوسنا ، وتزعجنا ، في جوِّ ليلٍ شديد الحرارة والرطوبة، كان كلٌّ منا يُسقط مايُسقطه، ويصدر بياناً ” على راحته، ، ويقول فيه مايشاء ضاحكاً ساخراً ، والثابت أنه كان يبالغ في ذكر عدد مايحتضنه بين كفَّيه من البعوض، ولا أعرف ماذا كان في داخل كلٍّ منا احساس بأن بياناتهم مثل بياناتنا ، فما يسقطونه ليس بعوضاً، لكن أحداً منا لم ينبس بأي كلمة شك في مايُعلن ، وكنا نعبر عن أحساسنا، بالتحدث الى الهرة ، ونحن نمر بها صباحا ، وهي مستلقية قرب الباب . كنا نقول لها :
– نيالك لاامتحان عندك .
– لا سهر ، ولا بعوض…
– ولا صهاينة يجبرون شبابنا على خوض حرب …
وعندما كانت تنظر الينا بعينين زرقاوين صافيتين كنَّا نضيف:
– هاهما عيناك صافيتان ، وليستا مثل عيوننا العكرة بالهموم..
– لكن اطمئنِّي ، فالحرب لن تطول ..
– من هنا طائرون الى طبرية والخالصة والقدس…
فتلوي رأسها ، وتموء طويلاً كأنها تقول: ” حلُّوا عنِّي…، واهتموا بامتحانكم”.
وكنت أفكِّر ، منذ بدأت الحرب، في ماسوف أفعله ، ان تدخَّل الجيش اللبناني في الحرب ، فأهلي في قريتي الحدودية، وعليَّ، في هذه الحال، أن أؤمن لهم مكاناً اَمناً، لكن… الأخبار تفيد أن النصر اَتٍ سريعا ، ولا داعي للقلق.
وفي هذا اليوم، اليوم الأخير من أيام دار المعلمين والمعلمات ، في صيدا ، عليَّ أن أحسم أمر العلاقة مع نهى ، فهذا اَخر يوم يتاح لي فيه أن ألتقيها ، وأتحدَّث اليها مطوَّلاً… قلت علاقة! ، لا، هي علاقة لم تبدأ ، منذ سنتين أحاول أن أبادر ، لكنِّي أتراجع في اَخر لحظة. البارحة عندما التقيت بها في الملعب قبل دخولنا الى القاعات ، غنَّت على مهل أغنية فيروز:” بكتب اسمك ، ياحبيبي …” ، فتحمَّست ، وكدت أقدم ، لكني تراجعت ، وصعدت الدرج الموصل الى الطابق الثاني مسرعاً كأني أهرب من مطاردٍ يقول لي : لاتهرب ، احسم أمرك، وخذ قراراً… الأرجح أن لاتبدأ تلك العلاقة التي أريدها ولا أريدها في اَن ، ولكن عليَّ أن أتخذ قراراً …،
وكذلك عليَّ أن أتفق مع أمينة على كثير من الأمور ، فقد أغيب عنها مدة طويلة ، وقد لاأستطيع أن ألتقيها كما كنت أفعل من قبل.
هل عليَّ أن أختار ؟
الاختيار صعب ، ولكن لابدَّ مما ليس منه بد.ٌّ
(يتبع)