أدونيس بين انتصاره لهدم أبنية التخلّف والقهر ومعاداته لمن يهدمها
نشرت “الحياة” – الخميس 27 يوليو/تموز 2017 – مقالًا لأدونيس، فَهرَس من خلاله واقعًا سياسيًّا مستجدًّا إثر ثورة الربيع العربي، ومنذ الكلمة الأولى عدّها إسلاميًّة، وهذا صحيحٌ ولكن ليس بالمعنى الداعشي، كما أراد أن يَسِمَه، بل بالمعنى الذي تمكّن به الشباب العربيّ من منح الثورة روحًا إسلاميّة جديدة منتصرين على ذواتهم باتجاه الأرحب، باتجاه الانفتاح نحو ثقافات الآخرين والمطالبة بالتعدّد الثقافي وبالدعوة الصريحة لبناء دولة مدنية، أرادوا لثورتهم أن تحيا بروحٍ إسلاميّة، وأن تنضبط بنظام ديمقراطيّ حرّ يرتكز على ما قدّمته البشريّة من تجارب في إدارة الحكم، بما فيها تجربة الحضارة العربية الإسلاميّة.
وإذا نجح أدونيس بتوصيف ما آلت إليه الأوضاع إثر هذه الثورة، من اتساع دائرة الفقر والأميّة والجهل والتخلّف، (أورد أدونيس تركيا مثالًا، وليس داعش أو القاعدة أو ملالي إيران)، وتحوّل العرب إلى أدوات فاقدين قدرة السيطرة على ثرواتهم، ثمّ أدان التهديم الذاتيّ والتبعيّة وشيوعَ ثنائية الحاكم والمحكوم، مما جعله يتباكى على فلسطين، ثمّ امتدح ساخرًا ممن تمكّن من تحقيق عروبته بتغرّبه (من اللبنانيين والسوريين)، فإنّ القارئ يختلف معك يا أدونيس بردّ أسباب ذلك لثورة الربيع العربي التي انطلق شبابها من كلّ الاٌقطار العربية في لحظة تاريخية واحدة صادحين بالحرية والكرامة والثورة على أنظمة حكم فاسدة لم تُخرِج أمتهم من التاريخ فحسب، بل أفقدت ناسها شرطهم الإنسانيّ.
ولعلّ العودة إلى ما ذكره أدونيس في مقاله هذا هو تكرار لما ذكره منذ حوالي نصف قرن، إذ قال: إنّ تيارات الفكر السياسي العربي سوّغت قهر الأنظمة، وأسهمت في تكريس أحوال الانقسامات، وإنّ علمانوية البعث قادت إلى طائفية مقيتة، وشعارات التقدّم والاشتراكية أخفت فسادًا ونهبًا وإفسادًا وتحوّلت الدولة إلى معتقلات ومقابر للمعارضين، وأدّى شعار تحرير فلسطين إلى مصافحة الحكام لقادة إسرائيل والتعاون معهم بغية ترسيخ أنظمة الموت، وفئة المثقفين تحوّلوا إلى جوقة مهرجين للسلطة ومؤسساتها التي فصّلت على مقاس دجلهم وعدميتهم وانحطاط أخلاقهم، والفارق أنّ تلك المآسي أرجعها، وقتذاك، لأنظمة فاسدة وأحزاب سخيفة، أمّا اليوم فيرجعها لفعاليات ثورة الربيع العربي التي قامت لتغيير ما كان قد فصّله في كتاباته التي طالت أحوال التخلّف والقهر من قبل.
من جهة أخرى وبالعودة لما ذكره أدونيس منذ عام 1980 في نصوصه عن الثورة الإيرانية نقرأ تصوّراته عنها: “ما يحدث في إيران إنما هو ثورة إسلاميّة، أو ثورة بالإسلام…”، وإنّ الثورة الإيرانية تقوم على “تأسيس ثقافة عربية حيّة وجديدة تكمن في نقد وتحطيم البنية الاجتماعية التي تلبسها النظام السائد وفرضها بالطغيان” و:”إنّ الدين يحرّك إيران في اتجاه التحوّل، فهو مناهضٌ للسلطة وإسلام السلطة ومناهض لكلّ ما يحالف هذه السلطة وإسلامها: الإمبريالية والاستعمار، من خارج، والرجعيّة والرأسمالية والإقطاعية والطائفية من داخل”، و: “تتحرك الثورة الإيرانية في أفق ثورة شاملة” و: “أنها قامت من أجل تحقيق التحرّر في الداخل: العدالة والمساواة وحرية الإنسان وكرامته…”.
كما ذكر أنّ: “الدين بمبادئه ومشتملاته هو الوعد الأول بالحياة التي تطمح إليها الجماهير الإيرانية الثائرة من بين الوعود التي قدمت لها، سواء كانت حديثية غربية أو ماركسية شيوعية” ثمّ أكّد أنّ: “الحركة الإسلامية الإيرانية لا تؤسس لمرحلة جديدة في فهم الإسلام وحسب، وإنما قد تكون أيضًا بداية لعالم إسلامي آخر، أي لإسلام يحتضن العالم الأرضي برؤيا جديدة وتجربة جديدة”.
ثمّ أضاف: “هيّ تحدٍّ عظيمٌ لأجيالنا ولأفكارنا ونظرياتها التي تأسست ونمت خارج المناخ الديني، ولكي لا أبالغ وأقول: إنّها دليل على إفلاسها (إفلاس أفكار ونظريات الحداثة) ثمّ لا يوارب عندما يقول: “يجب أن نعترف بأنّ ما يحدث بالثورة الإيرانية مدهش وضروري” إضافة إلى قوله: “كل ما رافق حركة هذه الثورة من أقوال وممارسات مبثوث ساطع في كتابات آية الله الخميني، ملهمها وقائدها، فكتاباته تلهج بالأمة الإسلامية وعلاقة إيران بالبلدان الإسلامية علاقة ربّانية لا تنفصم عراها”.
ثمّ أضاف أدونيس: “إن سياسة الإمامة أو ولاية الفقيه اهتداء بسياسة النبوة، أو هي إياها، استلهامًا لا مطابقة، ذلك أن لكلّ إمامة أو ولاية عصرًا خاصًّا” ثمّ يعرّف بضرورات ثورته الخمينية: “نحن نثور لنغيّر أنفسنا ولنغير العقول والنفوس أيضًا” ثم يكرّر: “الثورة الإسلامية في إيران كما يؤكّد ملهمها وقائدها ثورة – دعوة إسلامية – عربية بل، عربية”.
لم يتوافق الفكر الطليعي في تلك الآونة على وجهة نظر واحدة إزاء الثورة الإيرانيّة، وربما كان كلام أدونيس مسوّغًا عند قيام الثورة الخمينية، ولكنّ تداعيات تلك الثورة ظلّت بعيدة عن فكر أدونيس ووعيه وتصوراته، فمثلًا لم يول كبير أهمية لقمع الملالي لمعارضيهم ولقتلهم وتهجيرهم، ولم يكلّف نفسه قراءة دور ثورته الخمينية في إيجاد حزب الله اللبناني الذي أقصى المقاومة الوطنية اللبنانية التي طاردت الغزو الإسرائيلي بعد حصاره لبيروت عام 1982 بالتعاون مع نظام حافظ أسد الذي استمدّ قوته من مهادنته لإسرائيل وتوافقه الطائفي مع ملالي إيران، ولم نقف على دراسة له تشرح خلفيات إصرار الخميني على نشر التشيّع في بلاد المسلمين مبتدئًا بإسقاط نظام بعث صدام لمصلحة عمائم شيوخٍ شيعة، وصولًا إلى سياسات إيران التفتيتية ومحاولتها إضعاف شعوب المنطقة بالتوافق مع روسيا وإسرائيل، وإلى ما هنالك من أمثلة تثبت تورّط نظام الملالي الإيراني بتدمير المنطقة متوهمًا أنّه لاعب إقليميّ.
إنّ التاريخ التفت نحو الشباب العربيّ ودعاهم إلى تحطيم وهدم معالم العدميّة السلبيّة التي أوقفت أبواب الأسئلة، واكتفت بأجوبة الطغاة الفاسدين الطائفيين، فاستجاب هؤلاء الشباب لحركته وطرحوا أسئلة من جديد، وها هم أُولاء شباب ثورة الربيع العربي، بعد تحطيم البنى المتخلفة نتيجة شيوع العدميّة، يحاولون الإجابة عن كيفية تشييد قيم جديدة، فهم وإن ظلّوا منتصرين لهويتهم الإسلامية العربية، فقد انفتحوا باتجاه منجزات الثورات العلمية لدى الغرب بصفتها إرث كفاح الإنسان عبر تاريخه المديد.
إن ثورة الربيع العربي التي يتهمها أدونيس بأنّها دمّرت الأبنية القائمة ويكيل لها شتائمه منذ قيامها وإلى الآن، لم تخرج عن قانون الثورات، فمهام الثورة ترتبط بقدرتها على الهدم، هدم الأبنية المتخلفة والاستبدادية، هدم العدمية السلبية التي تحدّث عنها أدونيس بمعرض تحليله للثورة الإيرانية، ومن ثم تبدأ المرحلة الانتقالية التي يتوقّف نجاحها على طبيعة الفكر السياسي الجديد الذي يُبنى على أنقاض القديم.
لم تكن مرجعية شباب الثورة ماضوية، بل استمدوا طاقاتهم من مرجعيات معاصرة متعلقة بوسائل الاتصالات الحديثة، وبنزوع المجتمعات نحو إشادة الذات الفاعلة بمواجهة طغيان الجماعات، فجاءت توجّهات هذه الثورة ديمقرطيّةً أولًا، ومنفتحًةً على الثورات العلمية ثانيًّا، وتحمل بعدًا توحيديًّا على المستوى العربي بمواجهة سياسة التفتيت الأميركية التي ارتكزت على مبدأ الفوضى الخلّاقة لتبقي إسرائيل الدولة الأكبر وسط إمارات إثنية وطائفية وقبلية وعشائرية.
وإذا كانت الثورة السوريّة، بعد أكثر من ست سنوات، أفرزت قوى تتصارع على سطح أحداثها وهي سلطة نظام الحكم الفاسد الذي يستمدّ قوته من أعتى الأنظمة فسادًا على الأرض، روسيا وإيران ومن ورائهم إسرائيل والولايات المتحدة، هذه السلطة المتحالفة أيضًا مع ميليشيات طائفية شيعية من كافّة أصقاع الأرض هذا من جهة، ومن جهة أخرى قوى الإسلام التكفيري ممثلةً بالقاعدة وداعش الذين يتلقون دعمًا من قوى طامعة كبعض دول الخليج وربما تركيا التابعين بسياساتهم للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل أيضًا، فإن القوة الثالثة الكامنة في أعماق المجتمع هي قوة شباب ثورة الربيع العربي التي استجابت لنداء التاريخ، وهي تقاتل موضوعيًّا لتغيير أسباب مظاهر البؤس والشقاء في بلادنا.
إنّ أدونيس اختار منذ بداية الثورة الوقوف في مواجهة شباب الثورة بحجج صبيانية كاحتجاجه على خروج المظاهرات من الجوامع مثلًا، أو اتهامها بالداعشية، أو أنها تدمّر أبنية طالما طالب أدونيس ذاته منذ أكثر من ستين عامًا بضرورة تدميرها… ولكنّ أدونيس يبدو أنّه بقي أمينًا لمواقفه من الثورة الإيرانية، وبقيَ مصطفًّا إلى جانب فكر ملهمها، على حدّ قوله، الخميني. وإلى الآن، وبعد هذا الدمار والموت والقتل والتهجير والتغييب الذي قام به النظام السوري ونظام الملالي الإيراني وحزب الله وميلشيات الشيعة في العراق والباكستان وأفغانستان وغيرها لم يدرك أدونيس خطورة الفكر الديني الدّاعي إلى التشيّع، والذي يعدّ الوجه الآخر للفكر التكفيري لدى من يردّ على التشيع بتشيع أسوأ منه من قبل قلة من أهل الإسلام.
ولم يتنبّه أدونيس أنّ الثورة المضادة المدعومة من كل بؤر الفساد العالمي ومن إسرائيل تحاول كسر إرادة التاريخ التي التقت مع طموحات شباب عربيّ إسلاميّ آمن بضرورة استخدام أدوات إسلامية من أجل بناء صرح مجتمعيّ جديد، وآمن بالمقاومة الثقافية بصفتها درب شباب الثورة العربية الجديدة، وها هم أُولاء يعملون في كلّ فروع الثقافة من أجل إثبات حضورهم على المستوى الكونيّ، وقد أدركوا أهميّة العمل الثقافي الذي يجب ألّا ينفصل عن العمل السياسيّ وأنّ المقاومة الثقافية إنما هي في جوهرها كفاح سياسيّ.
لابدّ أن نتفق مع أدونيس على أنّ الأنظمة العربية أوصلت مجتمعاتها إلى أحوال العدميّة التي تجسّدت في انتشار أحوال الفساد وانهيار القيم وتسخيف الأفكار وتعميم الجهل والقهر وتشجيع الطائفية في مواجهة أهل الوطن الذين لم يتوانوا يومًا عن الدفاع عن سياج الأرض في مواجهة طامعين خارجيين، وأضيف إلى ما قاله، ما ذكره التاريخ من امتداد أيادي الأقليات تعاونًا مع المعتدين لإذلال الأكثرية وإضعاف فعلها، وهو ما أهمل أدونيس ذكره.
بقي أن نقول إنّ أدونيس من أكثر المسائلين للتاريخ، لكنّه ظلّ انتقائيًّا بتلقي أجوبته، ظلّ منحازًا لمعارضي السلطة العربية الإسلامية الاستبدادية القروسطية التي كانت ترفع راية الإسلام، ولسوء الطالع أن تكون أكثر الحركات المعارضة من أهل الشيعة، الذين يذكرهم التاريخ متعاونين مع القوى الخارجية (التتار والصليبيين وإسرائيل و…) ضد أهل الأوطان المسلمين.
جبلتك أيها الشاعر لا تستوي مع نظام طائفي بغيض فاسد، وموقعك الحقيقي هو خنادق الثوار الذي يمثلون إرادة التاريخ التي طالما انتصرت لها، سوى موقفك من الثورة الإيرانية الذي ظلّ مضللًا لك ولآخرين غيرك.
أخيرًا وليس آخرًا، هل ما صنّفته في القسم الثاني من مقالتك، أيها الشاعر، يمكنك مقارنته بشعر أدونيس الذي نعرفه في دواوينه السابقة، أو هو محاولات باهتة تتساوق مع مواقفك السياسية التي لا تُرضِي إلّا أنظمة فاسدة وطوائف مقيتة؟